د. مراد وهبة عنوان هذا المقال يشي بأن أفلاطون تجاوز زمانه الذي كان يحيا فيه وهو القرن الرابع قبل الميلاد إلى زمان آخر هو هذا الزمان. وإذا قيل بعد ذلك إن أفلاطون فيلسوف يوناني فهذا القول في حاجة إلى مراجعة وهي مراجعة تستلزم مراجعة أخري لهذا القول الشائع إن تاريخ الفلسفة هو تاريخ ثلاثة عصور متمايزة ومستقلة عن بعضها البعض، وهي على النحو الآتي: فلسفة يونانية وفلسفة عصر وسيط وفلسفة عصر حديث. فهذا القول الشائع كان قد اصطنعه الفيلسوف الألماني هيجل من القرن التاسع عشر لكي يدلل علي أن المطلق المتطور في سياق العصور المتباينة يتوقف تطوره عندما يتجسد في الدولة علي الإطلاق وفي الدولة البروسية علي التخصيص، كما يتجسد في الفلسفة الألمانية علي الإطلاق وفي فلسفته هو على التخصيص. ومع ذلك فإن الفيلسوف البريطاني المعاصر برتراند راسل لم يلتزم بهذا التقسيم الثلاثي لتاريخ الفلسفة، إذ له كتاب عنوانه, حكمة الغرب, لم يلتزم فيه بهذا التقسيم وقص علينا تاريخ الفلسفة الغربية على مدى 2500 عام بعناوين من اختياره وبلا ذكر للعصور الثلاثة. أضف إلى ذلك ما قاله الفيلسوف البريطاني الفريد هويتهد من القرن العشرين: إن ما يميز التراث الفلسفي الأوروبي يكمن في أنه عبارة عن سلسلة من الهوامش الملحقة بفلسفة أفلاطون. وفي مصر كان أستاذي يوسف كرم يقول: إننا نتعاطى الفتات الساقط من موائد أفلاطون وأرسطو. والسؤال بعد ذلك: هل ثمة تبرير في القول إن أفلاطون هو فيلسوف هذا الزمان؟ إذا قيل عن الفيلسوف إنه هو الذي يتميز بإثارة سؤال محوري يظل قائما بلا جواب حاسم فهذا الفيلسوف هو أفلاطون. فقد كان سؤاله المحوري علي هذا النحو: ما الذي يجعل الحياة جديرة بأن تعاش؟ والمغزى هنا أن الحياة التي ليست موضع بحث لن تكون جديرة بأن تعاش. والمقصود بلفظ البحث هنا هو البحث المستند إلى العقل دون سواه. والمعنى هنا أن الاشتغال بالفلسفة يرادف الاشتغال بالعقل. والاشتغال بالعقل مرادف للاشتغال بإثارة السؤال عن مغزي الحياة، وهو السؤال الذي أثاره أفلاطون والذي ظل في حالة إثارة بلا انقطاع إلي الآن، إلا أنه اتخذ مسارات متنوعة. وأظن أن أفلاطون قد تعمد عدم الوصول إلي جواب حاسم في محاوراته التي أجراها علي لسان سقراط، بل قد تعمد تعقيد المسائل الفلسفية إلي الحد الذي دفعه إثر الانتهاء من إنشاء الأكاديمية إلي كتابة هذه العبارة عند المدخل: لا يدخل هنا إلا كل عالم بالهندسة. وبذلك اكتفي بالنخبة وأقصي الجماهير. ومع ذلك فإن سقراط لم يفلت من غضب الجماهير التي طالبت بإعدامه بدعوى أنه ينكر الهة المدينة ويقول بغيرها ويفسد عقول الشباب، وقد كان. ومع ذلك ظل السؤال المحوري متواصلا بلا توقف ومتخذا مسارات متباينة. وعلي سبيل المثال لا الحصر فإن الفيلسوف الهولندي من القرن السابع عشر وقد انشغل في حياته التي كان يراها جديرة بأن تعاش بهذا السؤال: هل المقدس هو مقدس لأن الله هو الذي أراد أن يكون كذلك أم أن المقدس هو مقدس لأنه هو كذلك؟ وكان مصيره مثل مصير سقراط: التكفير مع عزله عن المجتمع. وبالرغم مما حدث لاسبنوزا فإن الفيلسوف الألماني كانط لم يتوقف عن السير في ذات المسار إذ قرر أن الدين يقوم على الأخلاق والعكس ليس بالصحيح. وحيث إن الأخلاق واحدة فالدين لابد أن يكون كذلك، ويبقى أن تعدد الأديان إنما يكون من حيث الشكل، أما من حيث المضمون فالدين واحد لأنه يقوم علي الفعل الأخلاقي وليس علي أي شيء آخر من طقوس شكلية أو عبارات خارجية. يقول كانط: إن كل ما يتوهم به الإنسان أنه يستطيع عن طريقه أن يكسب رضاء الله- فيما عدا اتخاذ مسلك أخلاقي طيب في حياته, إنما هو محض هذيان ديني أو مجرد عبادة زائفة لله. وفي هذا المعنى أصدر كتابا عنوانه: الدين في حدود العقل وحده. وفي هذا الزمان أظن أن السؤال المحوري الذي كان قد أثاره أفلاطون في القرن الرابع قبل الميلاد وامتنع فيه عن الاجابة الحاسمة خوفا من الجماهير لم يعد ممكنا في هذا الزمان بحكم تغلغل الأصوليات الدينية في مؤسسات الدولة والمجتمع. ومن أجل مواصلة هذا التحكم تدعمت هذه الأصوليات بميليشيات مسلحة تقتل بلا هوادة وتفكك المجتمعات بلا رحمة، وتهدد كل المشتغلين بالعقل بأنهم موضع تهديد بالقتل. ومن ثم دخل العقل في السُبات الدوجماطيقي ودلف إلي الكهف الذي كان قد تخيله أفلاطون والذي يقيم فيه بشر يتوهمون أن ما يرونه هو الحقيقة في أن المسألة على خلاف ذلك فهل يحق لي التساؤل إذن إنه في سياق ما تحدثه هذه الأصوليات أن الحياة لم تعد جديرة بأن تعاش، ومن ثم يتوارى أفلاطون وتتوارى معه الفلسفة؟ نقلا عن صحيفة الأهرام