د. محمد عثمان الخشت مر أيوب عليه السلام بتجربة مرضية عنيفة، وتم ابتلاؤه فى ماله وولده. تحمل أيوب وصبر صبرا جميلا، لم يلجأ إلا إلى ربه، ولم يتذمر، ولم يرفع صوته لوما وتوبيخا للقدر أو الظروف. وعندما أعيته الحيل لجأ إلى ربه متضرعا، يقول تعالى :(وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ((الأنبياء :83- 84)، وفى موضع آخر من الكتاب: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ. ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ. وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِى الْأَلْبَابِ. وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (سورة ص: 41 -44). ومن الواضح هنا أن التنزيل امتدح أيوب وصفاته، وقدم تجربته كدرس مستفاد لأصحاب العقول والعابدين. وانتهى الأمر فى القرآن عند هذه الحدود، وهو كتاب مبين يفسر نفسه بنفسه، وآياته بينات لا تحتاج لأساطير جانبية من الإسرائيليات والروايات الموضوعة التى انخدع بها بعض الرواة والمفسرين. لكن لكثير من المفسرين رأى آخر، وهو التفنن فى إيراد روايات أسطورية إضافية حول هذه الآيات من الإسرائيليات الموضوعة المكذوبة التى ليست ثابتة سندا ولا عقلا ولا بالمقارنة مع مجموع الكتاب الكريم ولا السنة الصحيحة، ولا تعدو أن تكون فهما خرافيا أسطوريا لكلمات التنزيل. والغريب أن هذه الروايات تمر مرورا واسعا عند كثير من المفسرين على الرغم من مخالفتها لصحيح المنقول وصريح المعقول. فهل أيوب النبى الكريم الذى امتدحه القرآن وضرب به المثل فى الصبر لحكم لربه، هو هذا الذى تُصوره تلك الروايات بأوصاف لا يمكن قبولها عن نبى له مكانته ويمدحه القرآن الكريم ، لكن بعض المفسرين يرددونها دون أى التفات لتناقضها مع القرآن الكريم ، ثم يخرج علينا مَنْ يدعو للدفاع عن التراث كله ككتلة واحدة دون تمييز بين ما به من صواب وما به من أخطاء وأساطير، إنها المزايدة الخاطئة، وإهدار لمطالب القرآن الكريم بإعمال العقل والتدبر، وعدم (تمييز الطيب من الخبيث فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث) على حد تعبير ابن الديبع فى كتاب بالعنوان نفسه بتحقيقى وصادر عن مكتبة ابن سينا عام1989. إن التراث نفسه به عقول رصينة تميز، وبه تيارات أخرى يخلط أنصارها بين الوحى والأسطورة، ويضعون الغث بجوار السمين، ومنهم الطبرى وابن كثير والغزالى القديم والسيوطى وغيرهم، ونحن نقدر جهودهم فى كثير من المواضع لكننا نرفض مواضع أخرى، ولا نقدس متونهم تقديسا، ونميز فيها بين الصواب والخطأ وبين الوحى والعقل والخرافات. لكن الدفاع الأعمى عن التراث كله ككتلة واحدة هو الخطأ بعينه. مع التأكيد على أن القرآن والسنة الصحيحة سندا ومتنا، ليسا من التراث، بل فوق التراث وأيضا قبل التراث. ومن هنا فلابد من التمييز فى التراث بين الوقائع والأساطير، وبين العلم والخرافة. إن التراث به الإيجابى وبه أيضا السلبي، وبه المعقول واللامعقول. إن المزايدة على الاحتفاظ بالتراث كله دفعة واحدة دون (تجاوز) المكونات الظلامية، مغالطة كبرى، ودغدغة لمشاعر الغوغاء، واستدعاء لكل عصبية القبيلة! راجع أيها القارئ الكريم نماذج من الروايات الأسطورية عند الطبرى وابن كثير والقرطبى والألوسى والرازى والسيوطى وغيرهم، حيث تجد روايات خرافية موضوعة تحاول إعطاء مزيد من التفصيلات والإثارة وتحكى قصصا و حوارات بين الله وإبليس و أيوب وزوجته وأصحابه، وتصف النبى أيوب بما لا يليق بنبى كريم، وتحلق فى عوالم الأسطورة دون سند تاريخى ثابت، وتخرج بالآيات عن حدود معناها المستخرج من ألفاظها وتراكيب جملها. انظر معى أيها القارئ الكريم فى بعض تلك الروايات التى تعج بها بعض التفاسير، حيث تذكر روايات كثيرة لم يصح سندها تاريخا ولا عقلا، بل هى من الإسرائيليات مثل ما رواه الرواة من حوارات غريبة بين الله وإبليس وأطراف أخرى، والنصوص الأسطورية طويلة تروى ما لا يتسق مع أصول الاعتقاد الثابتة من القرآن والسنة الصحيحة المتواترة، ولا أدرى كيف يوردها كثير من المفسرين وكأن هناك وحيا موازيا للوحى المنزل فى القرآن الكريم . وبعضهم يقبلها وبعضهم ينقد أجزاء منها. وفى كل الأحوال كان يجب عدم إيرادها فى كتب التفسير، فموضعها الحقيقى هو كتب الأساطير والحكايات والأعاجيب. تذكر الرواية الأسطورية كلاما منسوبا ل أيوب ، واضحا منه كذب الراوى عليه وعلى القرآن، حيث يذكر الراوى أن أيوب يعترض على قضاء الله، تقول الرواية نصا: (فقال أيوب صلى الله عليه وسلم: رب لأى شيء خلقتني؟ لو كنت إذ كرهتنى فى الخير تركتنى فلم تخلقني! يا ليتنى كنت حيضة ألقتنى أمي! ويا ليتنى مت فى بطنها فلم أعرف شيئا ولم تعرفني! ما الذنب الذى أذنبت لم يذنبه أحد غيري؟ وما العمل الذى عملت فصرفت وجهك الكريم عني؟ لو كنت أمتنى فألحقتنى بآبائى فالموت كان أجمل بي، فأسوة لى بالسلاطين الذين صفت من دونهم الجيوش، يضربون عنهم بالسيوف بخلا بهم عن الموت وحرصا على بقائهم، أصبحوا فى القبور جاثمين، حتى ظنوا أنهم سيخلدون. وأسوة لى بالملوك الذين كنزوا الكنوز، وطمروا المطامير، وحموا الجموع، وظنوا أنهم سيخلدون. وأسوة لى بالجبارين الذين بنوا المدائن والحصون، وعاشوا فيها المئين من السنين، ثم أصبحت خرابا، مأوى للوحوش ومثنى للشياطين). وتذكر الرواية أنه كان ل أيوب عليه السلام (ثلاثة من أصحابه اتبعوه على دينه، فلما رأوا ما ابتلاه الله به رفضوه من غير أن يتركوا دينه واتهموه، يقال لأحدهم بلدد، وأليفز، وصافر. قال الراوي: فانطلق إليه الثلاثة وهو فى بلائه، فبكتوه)، وتؤكد الرواية على لسان أليفز أحد أصحاب أيوب أنه وصفه بأوصاف عقائدية وسلوكية لا تتسق مع القرآن ولا السنة الصحيحة، قال أليفز :(عظيم ما تقول يا أيوب ، إن الجلود لتقشعر من ذكر ما تقول، إن ما أصابك ما أصابك بغير ذنب أذنبته، مثل هذه الحدة وهذا القول أنزلك هذه المنزلة، عظمت خطيئتك، وكثر طلابك، وغصبت أهل الأموال على أموالهم، فلبست وهم عراة، وأكلت وهم جياع، وحبست عن الضعيف بابك، وعن الجائع طعامك، وعن المحتاج معروفك، وأسررت ذلك وأخفيته فى بيتك، وأظهرت أعمالا كنا نراك تعملها، فظننت أن الله لا يجزيك إلا على ما ظهر منك، وظننت أن الله لا يطلع على ما غيبت فى بيتك، وكيف لا يطلع على ذلك وهو يعلم ما غيبت الأرضون وما تحت الظلمات والهواء؟». ويضيف أليفز:(أتحاج الله يا أيوب فى أمره، أم تريد أن تناصفه وأنت خاطئ، أو تبرئها وأنت غير بريء؟ خلق السماوات والأرض بالحق، وأحصى ما فيهما من الخلق، فكيف لا يعلم ما أسررت، وكيف لا يعلم ما عملت فيجزيك به؟ وضع الله ملائكة صفوفا حول عرشه وعلى أرجاء سماواته، ثم احتجب بالنور، فأبصارهم عنه كليلة، وقوتهم عنه ضعيفة، وعزيزهم عنه ذليل، وأنت تزعم أن لو خاصمك وأدلى إلى الحكم معك، وهل تراه فتناصفه؟ أم هل تسمعه فتحاوره؟ قد عرفنا فيك قضاءه، إنه من أراد أن يرتفع وضعه، ومن اتضع له رفعه». إن هذا ما لا يمكن قبوله عقلا ولا تاريخا عن نبى كريم يضرب القرآن الكريم به المثل والذكرى. وحديثنا لم يكتمل. أستاذ فلسفة الدين رئيس جامعة القاهرة