ربما لا توجد فتاة أو سيدة لم تفكر ولو لمرة واحدة في الهروب من حياتها والذهاب لمكان لا يعُثر لها على طريق فيه. خاصة في البلدان العربية التي يتعامل أغلبها مع المرأة من منطلق ذكورى باعتبارها دائمًا تابعة، تنتقل من ملكية رجل لأخر. فالفتاة إما إبنة تحت وصاية والدها أو عمها أو جدها، وإما زوجة تحت إمرة زوجها، وفي كل الحالات فحريتها مقترنة بتلك المساحة التي يبيحها لها ولي أمرها، وهي محدودة بمقدار تفهمه وانفتاحه من عدمه، والحق أن هناك نسبة ساحقة من السيدات متسامحات مع فكرة تابعيتهم تلك، لكن النسبة المتبقية يجدن صعوبة في قبول تلك الملكية. بعضهن يتحايلن عليها لتنفس حريتهن ولو لفترة محدودة والاخريات يذبلن في بيتوهن، ومع زيادة وعي البعض تزيد قوة رفضها لتقييد حياتها، وتزيد كذلك الفجوة والمسافة بينها وبين بيئتها المُقِيدة. قد تكون الروائية والصحافية نورا ناجي واحدة ممن عانين تلك الفجوة وربما لا، لكنها بالتأكيد استطاعت أن تنقلها بشعور مرهف في روايتها الصادرة حديثًا عن دار الشروق " أطياف كاميليا ". فمكنت نورا بطلة روايتها "كاميليا" من الهروب وتنفيذ التهديد اللذي يخطر ببال معظم النساء ويجهرن به في بعض الأحيان، ووضعت أمامنا تصور كامل لحياة كاميليا منذ صغرها بجميع مشاعرها وظروفها وقرارتها لنتتبع مسيرتها التي قاضتها في النهاية لتنفيذ تهديدها، فنواكب كاميليا من وجهة نظرها ونظر المحيطين بها، نتابعها في بهائها وذروة توهجها، ثم نعايش معها ذبولها التدريجي وتحولها ومن ثم هروبها أو اختفاءها. البديع في كتابة نورا هو قدرتها على تمثيل شخصياتها بحيوية شديدة، فحين تقرأ الرواية يمكنك أن تكون صورة واضحة لجميع شخوص الرواية وإلى أماكن الأحداث، كما يمكنك كذلك أن تبغض وتتعاطف مع وجهات نظر كل منهم، التي تختلف باختلاف شخصياتهم. لكن الثابت هو التأثير السلبي للشخصيات الذكورية الثلاثة الرئيسيين في الرواية، فربما لم تسعد كاميليا الصغيرة التي تعد امتدادا لعمتها التي اختفت الا حينما تخلصت من تلك السطوة والتحكمات، فحين أصبحت كاميليا مسئولة عن حياتها وعن قرارتها، بدت أكثر ثباتا واستقرارا وسعادة، ويمكن اعتبارها امتدادا لعمتها حيث استطاعت تحقيق ما لم فشلت فيه عمتها وفاق طاقتها. واللافت هنا هو عدم تصوير نورا لهؤلاء الرجال كوحوش، وانما بالصورة النمطية للرجال الشرقيين في طبيعتهم. ففي الواقع هناك رجال قد تكون ردود أفعالهم وتحكماتهم أشد قساوة مما بدت في " أطياف كاميليا "، لكن في الرواية يظهر "عاطف" كأب حنون على ابنته يحبها بشكل مبالغ فيه على الرغم من أنه كان يعامل والدتها، زوجته، بغاية السوء وكأنها خادمته حتى أنه لم يشعر بحبه لها إلا بعد وفاتها فقرر الاخلاص لها أخيرا بعدما ماتت، حتى أنه تبدل كليًا في تصرفاته وطريقته. ما يجعلك تشعر بالشفقة على تلك السيدة التي عاشت حياتها خادمة لرجل ظهر أجمل ما فيه بعدما ماتت بسبب حبه لها، وبسبب هذا الحب يستمتع جميع من حوله عداها! والحقيقة أن هذا النموذج متواجد بكثرة وتشعر بذات الشفقة حينما تصادفه سواء على الزوجة التي عاشت وماتت في ظلم وقهر، أو على الرجل نفسه اللذي هو أيضًا ضحية هذا الفكر الذكوري الذي يجعل حتى أبسط المشاعر وأجملها مشوشة لديه، فيفقد القدرة على التعبير عن الحب مثلا أو حتى تمييزه. الأمر ذاته مع ابنه اللذي كان يحظى بعلاقة جميلة واستثنائية مع شقيقته "كاميليا"، لكن كل هذا تغير إلى الأسوأ بعدما استشعر نجاح كاميليا في تحقيق أحلامه هو التي فشل في السعي وراءها. فكاميليا الفتاة الجميلة استطاعت أن تتحايل على تحكمات والدها قدر ما استطاعت ووصلت إلى ما تحلم به، في حين اضطر هو إلى الحصول على "المتاح" طوال الوقت حتى حينما تزوج، فعاش حياته في بؤس روتيني عوضه بتحكمات على زوجته وأخته وابنته فيما. حتى زوجته هي ضحية هذا الفكر الذي صور لها أن أخت زوجها هي بالتأكيد جانية، فقط لأنها تعيش حياتها كما تريد، أو أنها "تتحايل" وتستطيع أن تحصل على ما تريد فالغيرة التي بداخلها من تحرر كاميليا تصل إلى ذهنها على شكل صورة نمطية للحياة لا يجب أن تشذ أي فتاة عنها. وعلى الرغم من الحكايات ومدلولاتها إلى أن الأهم في هذه الرواية ليست الحكايات ذاتها وإنما المشاعر التي خلفها، وبالأخص مشاعر كاميليا التي تتغير باختلاف ظروفها وأحداث حياتها، فمع كل تصرف أو قرار في حياتها، على صوابه من عدمه، تبقى خلفه العديد من المشاعر التي تصل إليك والتي تجعلك ربما تغفر لها أو تبرر أي من أفعالها فقد وصفت مؤلفة " أطياف كاميليا " هذه المشاعر برهافة شديدة تجعل القارئ يتوحد مع الشخصية ومع ظروفها. في كتابه "ذاكرة الحكائين" للكاتب أمير تاج السر والصادر عن دار منشورات الربيع، أشار إلى أن هناك مشاعر لا يمكن أن تصل إلى القارئ بدقة إلا لو كتبتها امرأة، "فالكاتب الرجل ومهما ألم بمفردات معينة للنساء، ومهما كتب عن مشاعرهن، لن يستطيع مثلًا كتابة دموع هطلت لامرأة، في لحظة فقد أو فراق، كما يمكن أن تكتبها المرأة نفسها"، وهذا بالضبط هو ما يميز الرواية، فنورا استطاعت تصوير هذه المشاعر الأنوثية بحساسية شديدة تجعل كل من يقرأها يتفهم مشاعر المرأة التي تعي كم القيود من حولها وتشعر بالاغتراب الشديد تجاه كل ما حولها.