استطاع طريق الحرير أن يصنع لنفسه مسارات حضارية تضرب في جذور التاريخ وتتجاوز الحدود الجغرافية للعالم القديم لترسم صورة مُشرقة لمستقبل التعاون بين شعوب العالم، ولا أدل على هذا من الاجتماع الدولي الحالي لمنتدى "الحزام والطريق"، الذي يعقد بالعاصمة الصينيةبكين بمشاركة 35 زعيما من قادة الدول بمشاركة مصر لإحياء ذلك الطريق التجاري الذي يمتد عمره لأكثر من 2500 عام من عمر الزمان. ويفرض إحياء هذا الطريق التاريخي الذى يمتد من الصين وصولا إلى قارات العالم القديم (آسيا، إفريقيا، أوروبا) أن نُبحر في خضم رحلة تاريخية تعود أصولها لثلاثة آلاف عام قبل الميلاد حين توصل الصينيون لاكتشاف صناعة الحرير، وبرعوا في حياكته وتطريزه بشكل أذهل سكان العالم القديم لدرجة دفعتهم إلى مقايضته بالذهب والأحجار الكريمة. بائع السجاد والاقمشة الحريرية في العصر المملوكي ومنذ تلك اللحظة بدأ الحرير يأخذ طريقه من الصين إلى بلدان العالم، وما لبثت أن اتخذت تلك الصناعة لنفسها طرقا تجارية ذات مسارات محددة تضمن انتقال الحرير وغيره من البضائع من الصين إلى أواسط آسيا وشمال إفريقيا وصولا إلى أوروبا، وانتظمت هذه الطرق منذ القرن الخامس قبل الميلاد. وخلال القرن الثامن عشر الميلادي استطاع الجغرافي الألماني فرديناند فون ريتشهوفن أن يحدد مسارات طريق الحرير وقام بتقسيمه إلى شمالي يمتد من شمال الصين عبر شرق أوروبا وشبه جزيرة القرم وحتى البحر الأسود وبحر مرمرة والبلقان وصولا إلى البندقية، أما الجنوبي فيمر من تركستان إلى بلاد ما وراء النهر وخراسان (إيران الحالية)عبر العراق وسوريا وصولاً إلى مصر وشمال إفريقيا. بائع السجاد والاقمشة الحريرية في العصر المملوكي وقد فرض وقوع مصر على طريق الحرير، أن تكون المحطة الأكبر أثراً في مساره نظراً لموقعها الجغرافي الذى يصل بين قارات العالم القديم، ولمكانتها التاريخية التي جعلتها مثوى لعدة حضارات مثل الحضارة الفرعونية والرومانية والإسلامية. وقد تجلت أهمية طريق الحرير بالنسبة لمصر بصورة أكبر خلال العصر المملوكي، حيث يؤكد الدكتور أسامة السعدونى جميل مدير تحرير سلسلة التراث الحضاري بالهيئة المصرية العامة للكتاب والباحث في التاريخ الإسلامي بكلية دار العلوم جامعة القاهرة قائلاً: "إن العلاقات المصرية الصينية قديمة ولها جذور تاريخية تضرب في عمق التاريخ، فقد لاقت الصين اهتماماً كبيراً من مؤرخي مصر المملوكية قد رصدوا أخبارها، وقد دفعت الحروب الإسلامية المغولية بشكل كبير ففي الاتصال السياسي بين الحضارتين الإسلامية والصينية عبر سياسة مواجهة العدو الواحد مع استفحال خطر الهجمات الدامية التي شنها جنكيز خان على مملكة سونج في الصين عام 612ه/ 1215م، وإسقاطه للدولة الخوارزمية المسلمة في بلاد ما وراء النهر عام 628ه/1231م. بائع السجاد والاقمشة الحريرية في العصر المملوكي وأضاف السعدونى، أنه وبالرغم من دخول المغول في الإسلام في أعقاب هزيمتهم من المماليك في موقعة عين جالوت عام 658ه/ 1260م إلا أن دولة المماليك البحرية في مصر وإمبراطورية الصين قد واجهتا أطماع ملك المغول تيمور لنك الذى استطاع أن يوقع الهزيمة بقوات المماليك في عهد السلطان فرج بن برقوق، وعزم على إسقاط الأسرة الحاكمة في الصين، وفى ذلك يقول رأس المؤرخين في زمانه ابن حجر العسقلاني عن تيمور لنك: "لقد أباد البلاد والعباد وأكثر في الأرض الفساد، ثم ملك العراق. ودخل البلاد الشامية فملكها إلا اليسير منها، وعزم في آخر عمره على الدخول إلى الصين فمضى في الشتاء فهلك من عسكره أمم لا يحصون فرجع إلى سمرقند فتمادى به المرض حتى هلك". وعلق على ذلك المؤرخ جمال الدين بن تغرى بردى في النجوم في كتابه "الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة بقوله: "تعلقت آمال تيمور بأخذ بلاد الصين فأخذه الله قبل أن يصل". بائع السجاد والاقمشة الحريرية في العصر المملوكي وذكرى المقريزى في كتابه "السلوك لمعرفة دول الملوك"، أن بعض أمراء المماليك فى مصر تعود أصولهم إلى الصين، وقُدموا في صورة هدايا من ملوك الصين إلى سلاطين المماليك وكانت لهم مكانة كبيرة بين أمراء مصر، وتولوا وظائف مهمة في الدولة المصرية مثل الأمير أرغون شاه الناصري الذى تولى نيابة السلطنة على الشام، وكان مملوكا للسلطان الناصر محمد بن قلاوون. وقد اهتم مؤرخو مصر المملوكية وحغرافييها بالطرق التجارية بين مصر والصين وذكر الطبيعة الجغرافية لبلاد الصين وما يحدها من بحار، مثلما فعل المؤرخ والجغرافي العربي ابن فضل الله العمرى في موسوعته "مسالك الأبصار وممالك الأمصار". ويؤكد السعدونى، أن طريق الحرير البحري الذى كان يقصد مصر عبر البحر الأحمر ظل يستقبل المراكب الصينية المحملة بالبضائع وعلى رأسها الحرير، فقد كشف المقريزي في "السلوك"، وابن حجر في "انباء الغمر"، وابن تغرى بردى فى "النجوم الزاهرة" عن العلاقات الاقتصادية والتجارية بين دولة المماليك في مصر وامبراطورية الصين فسجلوا خبراً مهما في ذلك بأن عدة مراكب قدمت من الصين إلى سواحل الهند، وأُرسى منها اثنتان بساحل عدن، فلم تنفق بضائعها من الصيني والحرير والمسك لاختلال حال اليمن، فكتب المسئول عن تلك المراكب إلى الشريف بركات بن حسن بن عجلان أمير مكة، وإلى سعد الدين بن إبراهيم بن المُرة ناظر جدة يستأذن في قدومهم إلى جدة، فاستأذنا السلطان المملوكي المؤيد شيخ بالقاهرة، وذكروا له كثرة ما يتحصل في قدومهم من المال، فكتب بقدومهم وإكرامهم". بائع السجاد والاقمشة الحريرية في العصر المملوكي وهذا النص يؤكد ما حظى به تجار الحرير من الصينيين من حفاوة ومعاملة كريمة من سلاطين مصر، وفيه تفاصيل للمحطات البحرية التي تقع في الطريق، حيث كان طريق الحرير يمر من الصين إلى الهند عبر المحيط الهندي وصولاً إلى الخليج العربي وسواحل اليمن وصولاً إلى مواني البحر الأحمر وصولاً إلى مصر. وفى المقابل كان التجار المصريون يذهبون بتجارتهم إلى الصين، وقد كان لهذا الأمر أثره في نشر الإسلام واللغة العربية هناك، وقد ترجم المؤرخ صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي صاحب كتاب "أعيان العصر" لأحد هؤلاء التجار وهو إبراهيم بن محمد بن سعيد حيث قال: " كان في أول أمره له مال يسير، وسافر وأبعد في الصين، وفتح الله عليه، فاكتسب أموالً جمة، وبلغ الغاية، وتعدى في المال النهاية". خريطة توضح مسار طريق الحرير وذكر السعدونى، أنه وبالرغم من شهرة مصر بصناعة الحرير، حيث تميزت بعض المدن بإنتاجها الضخم مثل مدينة أخميم بصعيد مصر التي تميزت بصناعة السجاد الحريري، إلا أن الحرير الصيني قد فرض نفسه وبقوة في السوق المصرية خلال العصر المملوكي. وأضاف أن نسيج الحرير في عصر المماليك تأثر إلى حد كبير بمنتجات الشرق الأقصى، التي أدخلها المغول عبر طريق الحرير من خلال سفاراتهم وهداياهم لسلاطين المماليك، وظهر الأثر الصيني في صناعة الأقمشة الحريرية التي عُفت باسم "الكمخة"، وكانت تُصنع بمصر، ويتم تصديرها إلى أوروبا، وتدل تموجات العرانيس ومراوح اللوتس والجدائل على الأصل الصيني لتلك المنتجات، وذلك وفقا لما أثبتته الدكتورة فايزة الوكيل في دراستها (الشوار.."جهاز العروس" في مصر خلال عصر سلاطين المماليك). ويحتفظ متحف الفن الإسلامي بالقاهرة بمجموعة من القطع النسيجية التي تؤكد عمق العلاقات بين أباطرة المغول بالصين وسلاطين المماليك في مصر، ومن بين هذه القطع، قطعة صُنعت باسم السلطان الناصر محمد بن قلاوون ومُهداة من الإمبراطور الصيني إلى سلطان مصر ومنقوش عليها كتابات صينية وعبارة "سعادة مكررة طول العمر)، وذلك وفقا لبحث "أضواء جديدة عن العلاقات التجارية بين مصر والصين في عصر سلاطين المماليك" للدكتورة عائشة التهامي. ويضيف السعدونى أن الدور الذي لعبه طريق الحرير بين مصر والصين خلال العصر المملوكي قد ساهم في إدخال الزخرفة الصينية في إنتاج وغزل الحرير خلال القرن الثالث عشر الميلادي، وبرز هذا الأمر بصورة أكبر خلال عصر دولة المماليك البحرية في القرن الرابع عشر، ويرتبط هذا الحضور القوى بتفضيل الحرير الذى كانت تصدره أسرة "يوان" ، وهى الأسرة الحاكمة فى الصين خلال هذا الوقت إلى مصر. خريطة توضح مسار طريق الحرير وقد أكد المستشرق بيتان ج ووكر، على ما ذكره المؤرخ أبو الفدا من إهداء الخان أبى سعيد لسبعة آلاف قطعة من الحرير الصيني إلى السلطان الناصر محمد بن قلاوون احتفالا بمعاهدة السلام عام 1323م، وهذا الأمر دليل واضح على الاستيراد واسع النطاق للحرير. وتعكس كل هذه الأخبار التاريخية عن أهمية الدور الذى لعبه طريق الحرير إلى مصر خلال العصر المملوكي، وأن إعادة إحياء هذا الطريق التاريخي الحيوي سيكون له أثره الاقتصادي والحضاري الضخم كما كان قبل مئات السنين.