فى عام 1990 بدأ العلماء أكبر مشروع علمى دولى، بمشاركة وزارة الطاقة الأمريكية ومعاهد صحية أخرى، وامتد ليشمل مراكز بحثية كثيرة، أغلبها أوروبية، هذا المشروع الذى قُدر له أن يستمر 15 عامًا ، لكن التطورات التكنولوجية أدت إلى تسريع العمل به حتى انتهى قبل الموعد المحدد بسنوات عدة، يسمى مشروع الجينوم البشري.. المشروع كان من بين أهدافه ببساطة التعرف إلى الجينات التى يحتوى عليها الحمض النووى البشرى "دى إن إيه"، وقد بلغ عددها 140 ألف جين تقريبًا، وتخزين هذه المعلومات على قواعد للبيانات . العلماء قالوا إن المشروع سيتيح فوائد جمة للبشرية، ويمكن تلخيصها فى مجالات عدة منها، تطوير أدوية ومعالجات جديدة، ويمكن اعتبار المشروع بداية لحقبة جديدة من الطب الشخصى . والطب الشخصى يعنى ببساطة أن الناس يميلون للاستجابة بصورة مختلفة تمامًا للأدوية التى يصفها لهم الأطباء، حتى 50% من الذين يتناولون دواء معينًا سيجدون أنه إما غير مؤثر، أو أنهم سيتعرضون لتأثيرات جانبية غير مرغوبة، بمعنى آخر أن أسلوب "اضرب واخسر" مضيعة مرعبة للوقت والمال، بل إنه قد يعرّض حياة الكثيرين للخطر. وبالإضافة لذلك، فالناس يختلفون فى قابليتهم للإصابة بالأمراض، فقد يعيش شخص ما حياته وفق أسلوب معين قبل أن يسقط ضحية لنوبة قلبية فى منتصف عمره، فى حين يظل صديقه وهو يدخن عشرين سيجارة يوميًا ويتناول إفطارًا مقليًا كل يوم، قويًا حتى بعد الثمانين من عمره !، لكن لماذا ؟... جزء مهم من الإجابة عن هذا السؤال تجدها فى الجينوم البشري. هذا المشروع بلا شك ليس خيرًا كله، بل قد يحمل قدرًا من المخاطر التى تهدد الطبيعة البشرية نفسها.. كيف ذلك؟ دراسة الجينوم البشرى لكثير من الناس، ستكشف دون أدنى شك عن احتمالات وجود جينات معيبة تؤدى مستقبلاً إلى الإصابة بأمراض معينة أو تأتى بنسل له مواصفات قد تكون غير مرغوبة، هنا قد يطلب الآباء المتوقعون "الأغنياء بالطبع" من المُعالجين بالجينات، تصحيح أى مشكلات قد تنشأ بسبب وجود جينات معيبة حتى يتأكدوا من خلو نسلهم من مضاعفات هذه الجينات فى المستقبل، أو قد يطلب الآباء من أولئك المعالجين رفع معدلات ذكاء أطفالهم المحتملين، أو إضافة بضع بوصات إلى أطوالهم، أو منحهم قدرات رياضية متفوقة، أو شعرًا مجعدًا، وعيونًا زرقاء، وبشرة متوافقة مع أحدث صرعة!!. وهو ما حدث بالفعل، حيث حصلت مؤخرًا شركة 23 ANDME الأمريكية، على براءة اختراع تسمح لها بالتنبؤ بصفات الطفل بناء على معلومات ال "دى إن إيه" الخاصة بالأهل، ومع هذه البراءة تلمح الشركة إلى إمكانية تصميم الأطفال جينيًا!! وتضمن لغة براءة الاختراع هذه دلالات تشير إلى تطبيقات أخرى تتضمن إمكانية "غربلة" للحيوانات المنوية والبويضات خلال عملية طفل الأنابيب، بحيث تتم دراسة احتمالات الحصول على أطفال يقل معدل إصابتهم بالأمراض، مع إمكانية الحصول على جنس مُفضل أو حتى لون عيون مُفضل، يعنى "أطفال تحت الطلب"! وفى مواجهة ردود الفعل المعارضة، سارعت الشركة للتوضيح على مدونتها بأنه خلال فترة تقديم براءة الإختراع كان هناك اعتبار بأن تساعد هذه التكنولوجيا عملية التخصيب فى العيادات، وأنها لم ترد أصلاً العمل ببعض الإشارات فى براءة الاختراع هذه أكثر من دراسة ميزات الطفل المحتملة بناء على جينات الأهل. ووفقًا لمجلة "نيتشر" العلمية الشهيرة، تطرح عالمة أخلاق البيولوجيا البلجيكية سيجريد ستريكس مخاوفها حول براءة الاختراع هذه والعمليات التى أدت للموافقة عليها، وتبدى استغرابها من عدم شك الشخصية المسئولة فى مكتب براءات الاختراع عن تسهيل عملية "تصميم" الأطفال، وإن كان الموضوع مناسبًا لبراءة الاختراع. وبالطبع، موضوع كهذا سيثير الكثير من الجدل الدينى والقانونى والأخلاقى، وهو عبث علمى قد يؤدى حتمًا إلى نتائج وخيمة، مثال ذلك، عندما اكتشف العلماء الجين المسبب للصمم، وحين حاولوا التدخل لتغييره أو تعديله اكتشفوا أن ذلك سيؤدى للإصابة بالسرطان!! لكن الجديد فى الأمر، والذى تم نشره قبل أيام، أن هنالك توجهًا علميًا جديدًا للاستثمار فى معلوماتك الجينية - نعم معلوماتك الجينية - فهل هى مهمة إلى هذا الحد؟ نعم، هى كذلك، فكيف سيتمكن العلماء من استخدام جيناتك لابتكار علاج جديد؟ حيث تقدم هذه الشركة نفسها، والتى تعد من أكثر الشركات نجاحًا فى مجالات تحليل الجينوم البشرى، خدماتها بأسعار رمزية لا تتجاوز مائة دولار مُقابل تحليل بسيط يُخبرك أين عاش أجدادك قبل 500 عام، وتقارن حمضك النووى مع حمض إنسان نياندرتال القديم "الإنسان الأول الذى انقرض قبل 30 ألف سنة" ومدى التشابه بينكما! قدمت الشركة أكثر من مائة بحث علمى حتى الآن، بعد استئذان زبائنها الذين تجاوز عددهم 5 ملايين شخص حول العالم للحصول على معلوماتهم الجينية، وأعلنت علاقة تجارية مع إحدى أشهر شركات الأدوية البريطانية، بحيث تقوم الأخيرة باستخدام قاعدة البيانات الخاصة بتحاليل الجينومات والاستفادة منها فى صُنع علاجات طبية حديثة، بمقابل 300 مليون دولار لمدة 4 سنوات. هذه التطورات خلقت تصورًا جديدًا عن أهمية جينوماتنا فى المستقبل بالنسبة لشركات الأدوية الكبيرة، لأنه من أكبر العقبات التى تواجه العلماء بشتى تخصصاتهم العلمية، هى صعوبة العثور على قاعدة بيانات ضخمة تجمع أكبر عدد من تحاليل الجينوم البشرى، واصطدامهم بسياسة خصوصية المرضى وعدم قدرتهم على استخدامها للأبحاث العلمية. من الواضح أن عملية بيع الجينوم البشرى ستحدث ذات يوم، وربما فى القريب العاجل، أو ربما أجريت علينا أبحاث بنوايا أخرى للتعرف على جينوماتنا البشرية لمصلحة شركات الأدوية دون أن ندرى!!.