"إللي ما يعرفش يقول عدس"، هذا المثل يُلخص باختصار حالة الجدل "البيزنطي" التي سيطرت على جانب كبير من حوارات وسائل التواصل الاجتماعي هذه الأيام، وشابها كثير من عبارات السخرية والاستنكار، بل والفزع من دخول المستشفيات، بعد أن شكا أهل متوفى من وجود آثار دماء على عين متوفاهم في قصر العيني، من أثر انتزاع قرنيته بطريقة غير دقيقة.. وبدا أن هناك بكل أسف حالة إجماع على إدانة متهم وهو بريء، ألا وهو الطبيب، والذي يبدو أن هناك حملة تشويه متعمدة لمهنة كنا نصف أصحابها في الريف حتى عهد قريب ب"الحكيم"، واليوم بات الطبيب خطأ في نظر الكثيرين، وكأنه "فرانكشتاين"، تلك الشخصية الخيالية التي تتعمد سرقة الجثث وانتزاع الأعضاء!! .. فبدلا من أن نهيئ للأجيال الجديدة من الأطباء فرص التدريب والتعليم المستمر وحفز روح البحث العلمي والابتكار، نخشى أن تصبح النظرة إلى الطبيب المصري ملؤها الريبة والشك، وكأنه "حرامي" ينبغي تقديمه للعدالة!!، وهو ما يمس سمعته التي نعتز بها في الداخل والخارج. لا جدال في اتفاقنا جميعًا، وحرصنا على حرمة أجساد الموتى، وأنه لا ينبغي المساس بها ما لم يوصي أصحابها بالتبرع ببعض أعضائهم بذلك في حياتهم، أو يوافق ذووهم على ذلك بعد مماتهم.. لكن علينا أن نفكر بهدوء قليلًا، كيف يكون شعوركم حين ترون أمهات وآباء يتمنون على الأطباء نزع قرنياتهم وهم أحياء لمنحها لأبناهم المهددين بالعمى، لكن لا يستطيع الأطباء فعل ذلك لأنها تعد جريمة، في حين أن الحل يكمن بكل سهولة في قرنية منقولة من حديث الوفاة، وفق ضوابط طبية وقانونية مُحكمة، وبه يعود نور الحياة لعيون أوشكت على الإظلام التام. ببساطة شديدة؛ القرنية هي الجزء الأمامي الشفاف "الملون" من العين، ولا يتعدي سُمكه 11 ملي، وعرضه نصف ملي، وهي تشبه العدسة اللاصقة أو'قشرة السمك' لمن لم ير العدسة اللاصقة، وهي نسيج وليس عضوًا، ويتم معاملتها معاملة الدم، ونزعها لا يشوه شكل العين نفسها؛ لأنها تشبه أخذ طبقة سطحية من الجلد، ويتم وضع قرنية صناعية للمتوفى مكان قرنيته، وفي مكانها، بحيث يكون شكل العين طبيعيًا تمامًا حتى لا يحدث أي تشوه. فهل يُعقل أن عملية بدأها العلم منذ عام 1905، وتجري منها أكثر من 100 ألف حالة سنويًا في العالم، واليوم تتعالي الأصوات على وسائل التواصل الاجتماعي، وفي برامج التوك شو، إلى الدرجة التي تجعل صرحًا علميًا في حجم قصر العيني يعلن توقفه عن إجراء هذه الجراحة، التي تعد واحدة من أهم العمليات الجراحية حول العالم!! الكارثة يا سادة، أن لدينا وفق إحصاءات الصحة العالمية مليون حالة تعاني من مرض عتمة العين، لا حل لهم سوى زرع القرنية، من ضمن 10 ملايين حالة حول العالم، منهم 300 ألف حالة انتظار في بنوك القرنية، وقائمة المرضى تصل إلى 16 شهرًا، والقرنية المستوردة يصل سعرها ل 5 آلاف دولار، فضلا عن باقي تكاليف العملية، والتي لن يقدر عليها في هذه الحالة إلا فئة قليلة من الناس، ولن تجرى بالطبع إلا في المستشفيات الخاصة، بعيدا عن مستشفيات الغلابة!! وللعلم، فإن القانون رقم 103 لسنة 1962 الذي تم تعديله بموجب القانون 79 لسنة 2003، يسمح للمستشفيات التي بها بنك عيون مصرح به، كقصر العيني، أن تأخذ القشرة السطحية للقرنية بدون أخذ أي موافقة، وبشرط ألا تستخدم إلا للمريض المجاني، أي غير القادر، ولا يسمح القانون بأي متاجرة، وقانون زراعة الأعضاء الذي صدر عام 2010 في مادته رقم 26 يستثني القرنية والدم، ويعيد القرنية إلى قانون 103 الذي يتم تطبيقه حاليًا. ولأنه خلال 40 عامًا من صدور قانون عام 1962، لم يكن هناك متبرعون، وأصيب مئات الآلاف من الأطفال بالعمى، ووصلت قوائم الانتظار للقرنيات المستوردة إلى ما يقارب من 10 سنوات، تم تعديل القانون في 2003 ليسمح بجمع القرنيات في مستشفيات معينة وزرعها للمرضى "مجانا"، وتم حل مشكلة عتامة القرنية، ووصلت قوائم الانتظار إلى شهرين أو ثلاثة فقط، لكنها قفزت إلى 16 شهرًا، بعدما أصبحت بنوك القرنية في الإسكندرية وطنطا وروض الفرج وعين شمس "خاوية"، وبقي بنك قصر العيني وحده، وها هو تم "تجميده" بقرار عميد الكلية، حماية للأطباء من الهجمة "الفيسبوكية والإعلامية". وللعلم أيضًا، فإن قصر العيني مستشفى "تعليمي" وليس "علاجي" في الأصل، فالعلاج مسئولية وزارة الصحة؛ ممثلة في 600 مستشفى عام على مستوى الجمهورية، ما يعني أن طب قصر العيني كان يقدم خدمة جليلة للدولة للمساهمة في علاج مرضى عتامة القرنية "الغلابة"، فأين يذهبون الآن؟ خلاصة القول، ولتفادي تكرار ما حدث، لأنها ليست المرة الأولى، من المهم توحيد تنظيم نقل وزرع الأعضاء البشرية، وإضافة الأحكام الخاصة بالقرنية إلى القانون 2010، وتقنين عمليات استئصال القرنية بشكل واضح وصريح، وتعزيز ثقافة التبرع بها بين الناس وتوعيتهم بأهمية ذلك؛ لأنه من غير المعقول أن تظل مصر هي الدولة الوحيدة في العالم التي لا تستخدم الأعضاء البشرية في إنقاذ حياة "مرضاها"، سواء تبرعًا من الأحياء أو نقلًا من الموتى، حتى وإن كانت مجرد "قرنية"! باختصار، وقف عمليات زرع القرنية في قصر العيني لا يصب إلا في مصلحة مستورد القرنية، والوحيد الذي سيقع عليه الضرر هو المريض، الذي لا يستطيع تحمل نفقة استيرادها، ولا عزاء للمرضى الغلابة!