د. هشام مراد شنت الولاياتالمتحدة حربًا تجارية على الصين هي الأكبر في التاريخ الاقتصادي للعالم، فقد فرض الرئيس دونالد ترامب رسومًا جمركية تصل إلى 25% على واردات صينية بقيمة 34 مليار دولار. وردت الصين باتخاذ إجراءات مماثلة على واردات أمريكية بنفس القيمة، أي أن سلع الدولتين التي فرض عليها رسومًا جمركية بلغت 86 مليار دولار، وهدد ترامب بفرض جمارك جديدة على مزيد من الواردات الصينية بقيمة 16 مليار دولار، وهو ما ردت عليه بكين بأنها ستقابل الفعل بمثله. وحدا ذلك بالرئيس الأمريكي إلى التهديد بفرض رسوم جمركية على مجمل الواردات الصينية إلى الولاياتالمتحدة التي بلغت 505 مليارات دولار العام الماضى، ولتبرير فرض الرسوم الجمركية - وهي نوع من العقوبات على الصين - تتهم واشنطنبكين باتباع سياسات تجارية غير نزيهة، مكنتها من تحقيق فائض كبير في ميزانها التجاري مع الولاياتالمتحدة بلغ 375 مليار دولار. وهي تكرر في هذا الشأن اتهامات متعددة تتراوح ين سرقة أسرار صناعية وحقوق ملكية فكرية، والنقل القسري للتكنولوجيا، وتعمد إضعاف قيمة العملة الوطنية (اليوان) حتى يسهل نفاذ الواردات الصينية للسوق الأمريكية، وأيا كان المسار الذى سيتخذه هذا الخلاف التجاري بين أقوى اقتصادين في العالم، والذي سيلقي بظلاله على الاقتصاد العالمى، فإنه يشير إلى ما هو أعمق من ذلك، وهو التنافس على الريادة والهيمنة على النظام الدولي. واتخذ هذا الصراع بين الولاياتالمتحدة من ناحية والصين، وكذلك روسيا، من ناحية أخرى - وكلاهما يناهض الهيمنة الأمريكية - أشكالًا متنوعة سياسية واقتصادية وعسكرية أصطلح على تسميتها بالحرب الباردة الجديدة أو الثانية، بالإشارة إلى الحرب الباردة (الأولى) التي سادت في عهد الاتحاد السوفييتى. وهكذا، فإن النزاع التجاري الأمريكي - الصيني ما هو إلا أحد مظاهر هذا الصراع حول السيطرة العالمية، أطلقته واشنطن للحد من قدرة الاقتصاد الصينى على التفوق على نظيره الأمريكي، أو على أقل تقدير تأخير تحقق هذا التفوق. إذ تشير الدراسات الاستشرافية إلى أن اقتصاد الصين، المصنف ثانيًا في الوقت الحالي بعد الاقتصاد الأمريكي، سيصبح أقوى اقتصاد في العالم بحلول عام 2030؛ حيث سيبلغ إجمالي ناتجه القومي 38 تريليون دولار؛ بينما لن يتجاوز نظيره الأمريكي 23.4 تريليون دولار. ومن المتوقع أن يتسع هذا الفارق بمرور الزمن؛ حيث سيبلغ الناتج القومي للصين 58.5 تريليون دولار عام 2050؛ مقابل 34.1 تريليون للولايات المتحدة، ولاشك أن القوة الاقتصادية المتنامية للصين ستتيح لها في المستقبل أن تترجمها إلى قوة عسكرية ونفوذ سياسي عالمي، وهذا هو ما تخشاه الولاياتالمتحدة وتسعى لمنعه أو تأجيله بكافة السبل. ففيما يتعلق بالقوة العسكرية، مازالت الولاياتالمتحدة في الصدارة بإجمالي إنفاق عسكري 610 مليارات دولار في 2017، وهو مايعادل 35% من الإنفاق العسكرى في العالم، تليها الصين بقيمة 228 مليارًا، أى 13% من الإنفاق العسكري العالمى. وبرغم هذا الفارق الشاسع بينهما، فإن نظرة متفحصة للبيانات تظهر تقلص الفارق بين الدولتين خلال السنوات القليلة الماضية؛ حيث يشير معهد ستوكهولم لدراسات السلام إلى أن الصين احتلت المركز الأول عالميًا في نسبة ارتفاع الإنفاق على التسلح، إذ بلغت 110% منذ عام 2008، وبينما كان إنفاق الصين على التسلح لا يتجاوز 5.8% من الإنفاق العالمي خلال الفترة من 1999 حتى 2008، وصل الآن إلى 13%، في حين تقلص نصيب الولاياتالمتحدة في الفترة نفسها من 42% إلى 35%.. ولا عجب إذن أن يعلن ترامب في أكثر من مناسبة إن الصين، وكذلك روسيا، اصبحتا منافستين قويين للولايات المتحدة على الصعيد العالمى، لكن يتفق الساسة والخبراء الأمريكيون على أن الخطر الأكبر يأتي من الصين، بسبب قوتها الاقتصادية الهائلة التي ستنعكس حتمًا على قوتها العسكرية ونفوذها السياسى. وقد أكدت "إستراتيجية الأمن الوطنى" التي أعلنتها وزارة الدفاع الأمريكية في ديسمبر الماضي أن الصينوروسيا أصبحتا ينازعان الولاياتالمتحدة على القوة والنفوذ ويعملان ضد مصالحها في العالم. وفي يناير الماضي، أكد وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس أن التنافس مع القوى الكبرى في العالم، وليس مكافحة الإرهاب، هو الأولوية الأولى للأمن الأمريكى، ويفسر ذلك تراجع الاهتمام النسبي للولايات المتحدة بالعالم العربي والشرق الأوسط عمومًا، وتجنبها التورط في أزماته. والواقع أن هذا الانسحاب النسبي من المنطقة ليس جديدًا، وإنما يرجع إلى عهد باراك أوباما، الذي كانت أولى أولوياته في العالم العربي الانسحاب من العراق، كما أنه تجنب التدخل في النزاع العسكري في سوريا. وحذا ترامب حذوه، لكن اشتداد خطر الإرهاب في العالم العربي، مع تمدد تنظيم "داعش" وسيطرته على أراض شاسعة في العراقوسوريا أجبر واشنطن على تبديل خططها مؤقتًا لمواجهة هذا الوضع غير المتوقع. وبعد دحر داعش مؤخرًا، بفضل مشاركة العديد من دول المنطقة في التحالف الدولي ضد التنظيم الإرهابي، عادت الولاياتالمتحدة للتركيز من جديد على الخطر الأكبر على هيمنتها على العالم المتمثل في التنامي المتسارع لقوة الصين. هذا التوجه للإدارة الأمريكية ليس كذلك جديدًا؛ فقد سبق أن أعلن أوباما في 2011 عن إستراتيجية جديدة لسياسته الخارجية تعتمد على التركيز على آسيا، وتحديدًا على تحجيم قوة الصين الاقتصادية والعسكرية المتصاعدة، ويكمن الاختلاف بين الإدارتين الأمريكيتين في الأسلوب، فسياسة ترامب أكثر هجومية، وهذا يفسر "حربه التجارية" الحالية على الصين. ومن الأمثلة الأخرى على ذلك "قانون السفر إلى دولة تايوان" الذي وقعه ترامب في مارس الماضي وينص على تشجيع الزيارات المتبادلة بين المسئولين في كلا الدولتين، وهو ما يناقض التزام واشنطن باحترام "سياسة صين واحدة" الذي تعهدت به منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية مع بكين عام 1979. وأثار هذا القانون حنق بكين التي تعتبر تايوان جزءًا من الصين، وتطالب بضمها للوطن الأم، كما أن إدارة ترامب تركز بدرجة أكبر على القوة العسكرية لردع منافسيها الدوليين؛ فقد أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية في فبراير زيادة كبيرة في ميزانية الدفاع تبلغ 10%، بعد تراجع السنوات الماضية، وبحيث يتجاوز الإنفاق العسكرى 716 مليار دولار. وستعمد واشنطن في هذا الإطار إلى عرقلة تطلع بكين لإرساء هيمنتها على جنوب شرق آسيا، خاصة من خلال إرسال السفن الحربية لبحر الصينالجنوبي، والقيام بمناورات مشتركة مع الدول المناهضة لطموحات الصين في المنطقة.