أن تقدم فيلمًا سينمائيًّا أمر جيد، بل سهل على الكثيرين، لكن الانتظار عشر سنوات لتقديم مشروع سينمائي إنساني لا يستهدف الربح بالأساس.. هنا أنت في تجربة تستحق التوقف والتأمل والإشادة في الدأب والصبر في صناعة فيلم جاد يحترم عقل المشاهد، ويقدم سينما بمفهومها الأساسي "المتعة" وليس لمجرد تعبئة الأموال. هكذا كانت رحلة أبوبكر شوقي مخرج فيلم "يوم الدين"، الذي حصد مؤخرًا جائزة "فرانسوا شاليه" من مهرجان كان، بعد مشاركته بالمسابقة الرسمية، الرحلة التي غامر فيها المخرج لتقديم فيلم خارج السائد والمألوف، واضعًا فيه خبرته التي جمعت بين الدراسة بمعهد السينما بالقاهرة، وكذلك بجامعة نيويورك، والتي حصل فيها على الماجستير، وكان فيلم "يوم الدين" هو مشروع تخرجه منها بخلاف عمله كمساعد مخرج هنا بالقاهرة ودراسته للعلوم السياسية بالجامعة الأمريكية. شوقي في حواره مع "بوابة الأهرام"، يسرد رحلة فيلم "يوم الدين"، الذي يحكي عن رحلة مريض الجذام الذي تتوفى زوجته، ويقرر الانطلاق في رحلة يطوف بها أنحاء الجمهورية بحثًا عن عائلته، بعد أن تركه والده بمستعمرة الجذام في طفولته، واختفى الجميع من حياته. ويحكي شوقي في حواره عن سبب اختياره ل راضي جمال، مريض الجذام الحقيقي، بطلًا لفيلمه، ويسرد مراحل تعثرات الفيلم، والتكنيك الذي استخدمه في تصويره، كما يكشف عن الدعم الكبير الذي قدمته له منتجة الفيلم دينا إمام، من أجل خروج المشروع للنور، وبعيدًا عن هذه التفاصيل وأخرى، فإن المخرج يؤكد اهتمامه بصناعة فيلم يحترم الجمهور أكثر من اهتمامه بمقالات النقاد.. تفاصيل أخرى في هذا الحوار - كيف جاءت فكرة فيلم "يوم الدين"، ولماذا وقع الاختيار على مرض الجذام تحديدًا وليس أي مرض آخر؟ فكرة الفيلم بدأت عندما كنت أحضر لفيلم تسجيلي منذ عشرسنوات بمعهد السينما، حيث دراستي للإخراج، وكان ضمن مشروعاتي أن أقوم بعمل فيلم قصير عن مستعمرة الجذام بأبو زعبل، وكنت أسمع عنها من الناس، من هنا كانت الانطلاقة، وقررت أن أعود لهذا المكان مجددًا لتقديم عمل يشبع فضولي يتحدث عن المرض وظروفه وعن المرضى الذين تركهم أهلهم بالمستعمرة. - لماذا كل هذه المدة الطويلة في التحضير، هل كانت صعوبات في التصوير أم في الإنتاج؟ فعليًّا تحضير "يوم الدين" أخذ عشر سنوات، خمسة منها منذ أن بدأنا العمل على الفيلم فعليًّا، وخمسة أخرى، منذ أن جاءتني الفكرة، وحينها سافرت لاستكمال دراستي بنيويورك، وعندما جاء وقت تخرجي استعنت بهذه الفكرة كمشروع للتخرج، وبدأنا العمل عليها وواجهنا العديد من المشاكل بداية من غياب التمويل، ولم يكن معي حينها أي جهة إنتاجية، لذلك قررت تأسيس شركة إنتاج باسمي حتى أستطيع إنتاج الفيلم، هذا بالإضافة إلى التعثرات التي واجهتنا فيما بعد في استخراج التصاريح اللازمة، بخلاف ذلك كان هناك مأزق أنه ليس لدينا ممثلون معروفون، لذلك أخذت وقتًا طويلًا في تدريب الممثلين، تحديدًا "راضي وأحمد"، بطلي الفيلم، لكي يستطيعوا تقديم أدوارهم بالشكل المطلوب، وكل هذا أخذ وقتًا طويلًا، وحتى بعد انتهائنا منه كانت هناك أزمة مالية في استكمال المراحل الأخيرة بالفيلم. - كيف خرج الفيلم من رحلة تعثره المادي باعتبار أن هناك أكثر من منتج شارك به؟ رحلة البحث عن الممول أخذت وقتًا طويلًا، حتى أننا طلبنا من أشخاص عاديين مساعدتنا من المحيطين بنا، وحينها لم يكن لدينا اسم كبير في السوق، وكثيرون كانوا يتوقعون عدم النجاح، خصوصًا وأن قصة الفيلم صعبة إلى حدًّا كبير، لأنه في النهاية عمل يتحدث عن مرض، كما أنه لم يكن يوجد لدينا منتجين كثر مشاركين معانا، وفي مرحلة البوست برودكشن دخل المنتج محمد حفظي وشركته "فيلم كلينك"، وساعدنا لإتمام هذه العملية، بعد أن سبق وشاهد الفيلم عند حصوله على منحة في مهرجان الجونة، وأعجب بِه كثيرًا، مما جعله متحمسًا لمساعدتنا، وبذلك خرج الفيلم من تعثره الأخير. - ولماذا تحمس المنتجون الآخرون للمشاركة في إنتاج فيلم هو ليس تجاري بالأساس؟ أولًا، دعيني أوضح لكي من هم المنتجون الرسميون للفيلم، في مقدمتهم والمنتج الأساسي، وهي دينا إمام، ومنتج مشارك محمد حفظي، وشركته فيلم كلينك، بخلاف أشخاص أخر تحمسوا للفكرة من غير ما يكونوا منتجين أو في السينما، وسبق أن تعرفت عليهم، والحقيقة أن تحمس الجميع للقصة جاء بعد أن وجدوا عملًا مختلفًا وقصة قوية، وبالفعل هو ليس بعمل تجاري، لكنهم وجدوا قصة إنسانية خارج السائد والمألوف. - إلى أي مدى كان هناك دعم وإيمان بفكرة الفيلم من زوجتك دينا إمام؟ دعم دينا بلا نهاية، منذ أن بدأنا الفكرة وحتى اللحظة الآنية، بعيدًا عن كونها زوجتي، ولم تكن أبدًا المنتج الذي يعطي أوامر، بل إنها كانت من الممكن أن تقوم بأعمال هي ليست مهنتها، وأتذكر في مشهد كامل كان من المفترض أن يتم تصويره بالمدافن، ولم نتمكن من ذلك فذهبنا في الصحراء، وللأسف لم يكن لدي مسئول الإنتاج في هذا اليوم، مما جعلها تقرر أن تحفر هي في التراب بذاتها في الصحراء، وهذا إن دل على شيء يدل على إيمانها الشديد بالفيلم. - حدثنا أكثر عن تفاصيل رحلة بطل الفيلم "راضي" في "يوم الدين" عن ماذا يبحث، وما هي أحلامه؟ راضي اسمه بالفيلم "بشاي"، وهو رجل بسيط يعمل في جمع القمامة، ويبيع منها البلاستيك والحديد، ولديه مرض الجذام، ويعيش بالمستعمرة، ولا يوجد معه أحد هناك سوى زوجته، لأن والده تركه بالمستعمرة، وهو طفل صغير، وطوال حياته كان يسأل نفسه لماذا لم يعود والده له؟ وبعد وفاة زوجته قرر البحث عن أهله ليعرف منهم إجابة هذا السؤال. - ماذا وجدت في راضي من مقومات تصلح لبطل سينما، وهل عدم لجوءك لبطل سينمائي بالأساس مرهون بقدر المعاناة التي أردت توضيحها على الشاشة من رحم صاحبها؟ لم أقابل في حياتي رجلاً مثل راضي، فهو شخص دمه خفيف وقوي وموهوب، ولا يحب أن يقلل أحد منه، وبالنسبة له فهو أفضل مثال لشخص لم يأخذ حقه، خصوصًا وأنه لا يوجد أحد قدم أفلامًا لمرض جذام، واختيار راضي كان له أكثر من سبب، منها أن يكون هناك مصداقية، والحقيقة أنه لا يوجد أي ممثل كان من الممكن أن يقدم الشخصية كما جسدها، لأنه عاش وعانى من المرض، فهو أكثر اهتمامًا بالتفاصيل حتى في طريقة تدخينه، ورفعه لكوب الماء، وهذه أشياء لابد أن تكون واقعية من رحم صاحب المعاناة ذاته. - لماذا كان كل هذا الحماس في تجربة "يوم الدين" هل كنت تخطط لتنفيذ الفيلم لمشاركته في مهرجانات دولية؟ عندما أعمل بأي فيلم لا أفكر في هذا الأمر، لأَنِّي بالأساس غير مقتنع بما يسمى فيلم مهرجانات أو غيره المخصص للسينما، وكنت أرى هنا أنني أقدم قصة لم تقدم من قبل محملة بتشويق يريد الناس أن يتعرف عليها الناس، وإذا كان هناك فرصة لدخول الفيلم مهرجان فهذا أمر جيد "خير وبركة"، لكن في النهاية شغلتي أني أقدم فيلمًا بأفضل المكونات والأدوات. - الأفلام التي تحمل لغة إنسانية تحتاج لحالة خاصة من قبل منفذها، فكيف قمت بذلك للحفاظ على هذه الروح بجانب التكنيك السينمائي؟ بالنسبة لي، الموضوع كان شديد الدقة، ووضع باعتباري كثيرًا من التفاصيل، منها أن هؤلاء المرضى لم يعرض أحد معاناتهم من قبل، وحتى محاولات الاهتمام بهم قليلة، وما كنت أبحث عنه في فيلمي، أن ينظر المشاهد لهذه الحياة بكل تفاصيلها. - هل تألمت خلال تنفيذك للفيلم من حالة راضي، وهل كان أول حالة جذام تقابلها بحياتك؟ راضي لم يكن أول حالة أقابلها، لأَنِّي فيلمي التسجيلي الذي قدمته من عشر سنوات قابلت خلاله العديد من المرضى بالفعل، وتفاعلت معهم، ورحلة الألم بدأت في ذهابي قديمًا للمرة الأولى للمستعمرة، حيث كنت شديد القلق والخوف، لكن ما لبث ذلك الإحساس أن انتهى بعد تعرفي على الناس وطبيعتهم، وخصوصًا أن مرضى الجذام لديهم كرامة كبيرة، ولا يقبلون بأحد أن ينطر لهم نظرة غير مرضية، لأنهم أناس عاديون مثلنا في نهاية الأمر. - ماذا اكتشفت خلال رحلتك عن هذا المرض؟ اكتشفت أن الإنسان لابد أن يحكم على الأشخاص من خلال شخصيتهم، وهل هم أناس جيدون أم لا، ولا يحكم عليهم من الشكل لأنها كلها أشياء ثانوية. - هل كانت هناك صعوبات في مشاهد التصوير، وهل لك أن تحدثنا أكثر عن التقنيات التي قمت باستخدامهما في الفيلم؟ طبعا كان هناك صعوبات كثيرة، منها التمويل الذي كان يسبب تعثر لنا، ونتوقف بسببه فترة، وأحيانًا الصعوبات كانت مرتبطة بطبيعة الفيلم نفسه لوجود ممثلين غير محترفين، وهذا يتطلب وقتًا أكثر للتدريب مع وجود البعض لا يجيد القراءة والكتابة، لذلك كنا نجلس معهم وندربهم، هذا بخلاف أماكن التصوير البعيدة، والتي أحيانًا لم تكن تصلح للتصوير. أما عن التكنيك المستخدم، فقد صورنا معظم المشاهد "هاند هيلد" بكاميرا محمولة، بمعنى أننا عمرنا ما ثبتنا الكاميرا لأسباب كثيرة، منها أننا كنّا نقدم الفيلم مكس بين الوثائقي والروائي، وفي ذات الوقت، كنّا نريد مزيدًا من التحرر لدى الأبطال، بمعنى ألا نثبتهم في أماكنهم، لأنهم حينها لن يتمكنوا من تقديم أداء جيد، ولذلك قررنا أن نسير نحن وراءهم، وليسوا هم الذين يسيرون خلفنا. - كيف كانت دراستك بنيويورك داعمة لك في تنفيذ الفيلم؟ وكيف كانت خطوات عملك ودراستك الأولى بمصر ؟ فيلم "يوم الدين"، هو مشروع تخرجي من جامعة نيويورك، وقد ساعدوني كثيرًا خلاله بداية من السيناريو الذي كتبته ثم التمويل، وحاولوا تقديم كثير من الخدمات، واحتفوا به كثيرًا بعد انتهاء التصوير خلال وجوده في مرحلة البوست برودكشن، وأيضًا بعد مشاركته بمهرجان "كان"، لأنه لم يحدث سابقًا لفيلم من خريجي الجامعة يدخل بالمسابقة الرسمية للمهرجان. - هل كنت تتوقع حصول الفيلم على جائزة بمهرجان كان، خصوصًا وأن إدارة المهرجان عدلت برنامج مشاركته ليكون بالمسابقة الرسمية بعد أن كان ضمن أحد برامجها الموازية؟ لم أتوقع حتى المشاركة من الأساس، فالأهم لدي متعة الجمهور، وأسعدني كثيرًا حصولي على جائزة، بل إنني تشرفت بها، خصوصًا وأن من حصل عليها من قبل كانت أسماء كبيرة مثل يوسف شاهين، وبالمناسبة قسم "نظرة ما"، الذي كان سيعرض به فيلمي، هو برنامج مواز بالفعل، لكنه مهم جدًا وسبق وشارك فيه فيلم "اشتباك". - كيف ترى احتفاء الصحافة العالمية والنقاد بتجربة يوم الدين؟ أنا مهتم فقط بصناعة فيلم جيد، ومكتمل العناصر، وأمنيتي الحقيقية، أن أنال إعجاب جمهوري بأعمالي، وأحب أن أقابلهم بالشارع، ويتحدثون لي إذا كان الفيلم نال إعجابهم، لكن في الحقيقة أنا مبتعد عن قراءة النقد عن أعمالي، لأنها إذا كانت جيدة سأصاب بالغرور، وإذا كانت سيئة سيضربني الإحباط. - ماذا بعد خطوة يوم الدين، هل سيكون هدفك العمل على مثل هذه المشروعات، والمشاركة بها في مهرجانات دولية، أم يمكن أن تخوض العمل بتقديم أفلام بالسوق المصرية؟ سأعمل بأي سينما أجد فيها قصة حلوة، فأنا لا أقبل بتحديد موهبتي وتصنيفها باتجاه معين، وأي فيلم أرى فيه شيئًا جيدًا، وخصوصًا لو في مصر يشرفني تقديمه لأَنِّي أحب أن أضع بلدي في المرتبة العالمية للسينما. - أخيرًا، تعتقد أن السوق العربية بشكل عام أصبح لديها أفق أوسع لاستقبال مثل هذه الأعمال، أم أنها لا تزال خارج نطاق الاهتمام بها؟ أتمنى ألا يكون ذلك، خصوصًا وأن هناك أعمالًا كثيرة تشارك في أحداث دولية بالخارج، وأتمنى يكون هناك تغيير، ولا يرتكز على الشركات الكبيرة والأسماء المعروفة، لأن مصر بها أسماء ومواهب كبيرة تحتاج أن تمنح فقط الفرصة. . . . . .