علمني رمضان أنه شهر اغتنام النفحات وطلب القربات من الرب الجواد الكريم، لما اختصه سبحانه من خير وفضل ورحمات تعلي درجاتنا وتثقل ميزاننا لقصر أعمارنا بين الأمم الأخرى، فعلمني أن نتمثل حثَّ رسولنا القائل: "اطلبوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات رحمة ربكم، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده، فاسألوا الله أن يستر عوراتكم ويؤمن روعاتكم"، وقوله: "إن لربكم في أيام الدهر نفحات، فتعرضوا لها، لعل أحدكم أن تصيبه نفحة فلا يشقى بعدها أبدًا". ومن نفحات شهرنا المبارك التي يجب علينا اغتنامها، العشر الأواخر منه، والتي نحياها الآن، وما فيها من ليلة القدر وتحريها وقيامها، تمثلا بقول أمنا عائشة: كان رسول اللَّه يجتهد فى العشر الأواخر ما لا يجتهد فِى غيره، وتصويرها لحاله فيها بقولها: "كان رسول اللَّه إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وجد وشد المئزر"، فلنغتنمها بقيام الليل والدعاء والذكر، والتضرع إلى الله تعالى، وقراءة القرآن والصدقة وصلة الرحم والاستغفار وشتى صنوف الخير والبر. ومما يروى من شدة تعظيم سلفنا الصالح لتحري هذه الأيام وتعظيمها، أنهم كانوا يتطيبون لها ويتزينون، فيقول ابن جرير: كانوا يستحبون أن يغتسلوا كل ليلة من ليالي العشر الأواخر، فكان النخعي يغتسل كل ليلة، وكان لتميم الداري حلة اشتراها بألف درهم يلبسها في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر. ولنحذر قرائي الأحباب أن نحرم خير ليلة القدر، لما أخبرنا به أنس بن مالك قال دخل رمضان فقال رسول الله "إن هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حرمها فقد حرم الخير كله، ولا يحرم خيرها إلا محروم ". علمني رمضان أيضًا أنه شهر الجود والسخاء، وقد أمرنا ربنا بهما فقال سبحانه: "ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون"، وكان نبينا فخر الكون خير من جادت يداه وخلقه، فيروي ابن عباس قائلا: "كان رسول الله أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل في كل ليلة، فيدارسه القرآن، فلرسولُ الله أجود بالخير من الريح المرسلة ". ومن صور الجود والسخاء بذل الصدقة، دليل الرحمة، والشعور بالآخرين من المساكين والفقراء واليتامى والأرامل وأصحاب العوز، وتيسير الأمور، وتفريج الكربات، ونزول الخيرات، وحلول البركات، ودفع البلايا، وإعانة الرب - جل وعلا - لفاعلها ومنفقها، فالله في عون العبد، ما كان العبد في عون أخيه، والاستظلال بظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله، الداعي لفاعلها حبيبنا في قوله: "ما من يوم يصبح فيه العباد، إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفا"، ويقول ابن القيم: "المتصدق كلما تصدق بصدقة انشرح لها قلبه، وانفسح لها صدره، وقوي فرحه، وعظم سروره، ولو لم يكن في الصدقة إلا هذه الفائدة لكان العبد حقيقًا بالاستكثار منها، والمبادرة إليها". من صور الصدقة والجود والسخاء أن يسقط إنسان دين له عند أخيه، فيعفو ويطرحه عنه، ويخلي ذمته منه، يقول: "من أفضل العمل إدخال السرور على المؤمن تقضي عنه دينًا، تقضي له حاجة، تنفس له كربة"، ويقول عمر بن الخطاب: "سئل رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: إدخالك السرور على مؤمن، أشبعت جوعته، أو كسوت عورته، أو قضيت له حاجة". يروي الشيخ محمد إبراهيم الحمد في "دروس رمضان" أن قيس بن سعد بن عبادة كان من الأجواد المعروفين، حتى إنه مرض مرة، فاستبطأ إخوانه في العيادة، فسأل عنهم فقيل له: إنهم كانوا يستحيون مما لك عليهم من الدين، فقال: أخزى الله مالا يمنع الإخوان من الزيارة، ثم أمر مناديًا ينادي: من كان لقيس عليه مال فهو منه في حل؛ فما أمسى حتى كسرت عتبة بابه من كثرة من عاده. كما لا تتجسد الصدقة والجود والسخاء في المال فحسب، بل تمتد لتشمل قضاء حوائج الناس، وتفريج كرباتهم، وبذل الخير للضعفاء والمحتاجين وذوي الحاجة، والشفاعات الحسنة، ونصرة وإعانة المظلوم، والتخلق بعظيم وحسن الخلق، ومقابلة الناس بالبشاشة، والتبسم، والبشر، والتي بها يصل صاحبها إلى درجة القائم الصائم. ولا أجد خير ما أختم به من قول ابن القيم حتى نمتثل ونتأسى به في صور جوده وكرمه وإحسانه المتعدد، وهديه في الصدقة على اختلاف مشاربها؛ إذ يقول: "كان رسول الله أعظم الناس صدقة بما ملكت يده، وكان لا يستكثر شيئا أعطاه ولا يستقله، وكان عطاؤه عطاء من لا يخشى الفقر، وكان سروره وفرحه بما يعطيه أعظم من سرور الآخذ بما يأخذه، وكان أجود الناس بالخير، يمينه كالريح المرسلة، وكان إذا عرض له محتاج آثره على نفسه تارة بطعامه، وتارة بلباسه، وكان ينوع في أصناف عطائه فتارة بالهبة، وتارة بالصدقة، وتارة بالهدية، وتارة بشراء الشيء ثم يعطي البائع الثمن والسلعة جميعًا، وكان يأمر بالصدقة، ويحض عليها، ويدعو إليها بفعله وقوله، فإذا رآه البخيل والشحيح دعاه حاله إلى البذل والعطاء"، إلى أن قال رحمه الله: "إذا فهمت ما تقدم من أخلاقه فينبغي على الأمة التأسي والاقتداء به في السخاء والكرم والجود، والإكثار من ذلك في شهر رمضان؛ لحاجة الناس فيه إلى البر والإحسان ولشرف الزمان ومضاعفة أجر العامل فيه".. فالله أسأل أن نتأسى سيرته فعلًا، وقولًا، إخلاصًا، وقبولًا، وللحديث بقية إن شاء الله.