ناقشت ورشة الزيتون الإبداعية بالقاهرة، مساء أمس الإثنين، رواية "الجراد الأبيض وثلاث مومياوات أعلى النهر" للكاتب صلاح مطر، الصادرة عن دار بورصة الكتب. في بداية الندوة قال القاص أسامة ريان: "إننا أمام رواية غير تقليدية بالمرة، حيث يبتكر الكاتب فيها عالمًا آخر تدور فيه الأحداث، وقد بذل جهدًا مضنيًا له ولكنه ممتع جدًا للقارئ، وهو عالم افتراضي له جغرافيته وتاريخه الفريدان، يؤسس فيه الكاتب أسطورته الشديدة الخصوصية مع تعمد أن يكون زمن الأحداث غير واضح والحرص على تجهيل أسماء الأماكن؛ الأمر الذي يزيد من سحر غموض الرواية، وكل هذا يجعلنا لا نتجاوز إذا وصفنا الكاتب بأنه عاشق الأساطير". وأضاف ريان أن النص – على رغم ذلك – لا ينفصل عن العالم الذي نعرفه تمامًا؛ فعلى سبيل المثال نجده يذكر الشيطان صراحةً ولا يجعله "إله الشر"، في حين أنه لجأ إلى فكرة الآلهة المصورة للطبيعة، ونظام كهنة المعابد المعروفين في أزمنة مختلفة، وصوّر كيف يُقتل الخارجون عن ديانة الجزيرة مسرح الأحداث ومقاومة من يحاول النيل من قدسية تلك الآلهة. "وفي سرد رائع على ألسنة شخصيات الرواية، كل على حدة، يستعرض الكاتب مراحل الشك التي يقع فيها الإنسان في حياته، والتي يمكن أن توصله إلى الحقيقة في النهاية، وقد اتضح ذلك في البطل الرئيس في النص وهو "إيتابو" ابن ملك جزيرة أرض القمر، أو دات نادو حسب لغة أهل الجزيرة نفسها، حيث يختلط البطل بعامة الناس بعد أن عشق فتاة قروية وتنكر في ملابس راعٍ ليتمكن من رؤيتها عن قرب بعيدًا عن تأثير الجاه والسلطان فيها، ومن هنا يتحول إلى متمرد على القصر والظلم الذي يمارسه علية القوم على العامة وتركهم نهباً للفقر والجوع والمرض، كما يتعرف إلى متمردين آخرين، وتتطور شخصيته وطريقة تفكيره ويتخذ منهم أصدقاء حقيقيين لاسيما الخاليلو الوافد على الجزيرة بمعتقدات مختلفة تودي به إلى السجن، فيجاهد ابن الملك للدفاع عنه وحمايته من القتل. ويستطرد: وفي سرد رشيق ينتقل صلاح مطر من راوٍ إلى آخر متعمدًا عدم الإشارة في عناوين الفصول إلى شخصية الراوي مراهنًا على فطنة القارئ، الذي يجد متعة كبيرة في وضع تفاصيل الأحداث وتطور الشخصيات وحكاياتها جنبًا إلى جنب على طريقة الموزاييك لتكتمل اللوحة الجميلة في النهاية، ويزخرف الكاتب تلك اللوحة بنصوص من الكتب السماوية الثلاثة تلقي مزيدًا من الضوء على مغزى الرواية، وتكلل مجهوده في البحث والقراءة حتى خرج العمل بهذا البناء المتقن. أما الروائي الدكتور محمد إبراهيم طه فقال: إن "الجراد الأبيض وثلاث مومياوات أعلى النهر" هي مثال نموذجي للرواية التي تنتهج طريقة بنية الطبقات المتعددة؛ حيث يتعدد الرواة في النص، فتأتي الأحداث على ألسنة ثلاثة من أبطالها إضافة إلى الراوي العليم في عالم أسطوري شديد الخصوصية والجمال والإتقان. ويضيف: والجميل أنك حين تنتهي من قراءة الرواية تجد أنك يمكنك أن تعيد قراءتها في اتجاه عكسي، حيث تنتبه إلى أن الكاتب يستدرجك إلى عالمه الخاص هذا وأنت تظن أنه يتحدث عن أحداث وقعت في بدايات التاريخ، ثم يعيدك في النهاية إلى زمننا الراهن عبر إسقاطات ذكية على الأحداث التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط وعالمنا العربي من قلاقل وثورات وحروب بمختلف ألوانها. "يأخذك الكاتب إلى عالم أسطوري بحت، ثم تنتفي عندك فكرة الأسطورية عندما تكتشف أن الأحداث تجري في جزيرة منعزلة اخترعها خيال الكاتب، بل إنه اخترع لغة خاصة لا مرجعية لها في اللغات المعروفة، وقد أورد منها كلمات في النص كان من الجميل أن يفهمها القارئ ضمن السياق ولم تكن غريبة عليه، ومنها أنه سمى شهور السنة أسماء جديدة وحتى أنواع الأشجار والحيوانات والطيور، وكذلك القمر نادو والشمس مادي والأخيران اسمان للجزيرتين اللتين تدور فيهما أحداث الرواية والصراع الدائر بين سكانهما في إسقاط على الصراع القديم والمستمر بين الشرق والغرب". وأشاد طه بلغة الرواية "المحكمة" ووصفها بأنها "لغة متدفقة جدًا تعتمد على الوصف الدقيق غير المعقد ولا المتكلف بأسلوب رشيق يدل على امتلاك زمام اللغة"، مضيفًا أنه "من النادر أن تجد نصًا كهذا ليس فيه خطأ لغوي أو إملائي أو فني واحد". مشيرًا إلى ما وصفه ب"حرص الكاتب على سرد الأحداث بعناية وإحكام شديدين بطريقة مثلى للإحاطة بعالم الرواية المترامي الأطراف المليء بالأحداث؛ حتى إنها تصلح لأن تكون ثلاث روايات منفصلة". وقال طه: على الرغم من تعدد الأحداث والشخصيات فإنك لا تملها، بل إنني كنت سعيدًا ومأخوذًا حتى بذلك العالم الوثني الذي عاش فيه الأبطال في النصف الأول تقريبًا من الرواية، حتى تتخيل للحظات أنك تعيش في بيئة مصرية قديمة قبل ستة أو سبعة آلاف سنة. ويجرنا هذا إلى الحديث عن الزمن في الرواية، حيث يأخذنا الكاتب إلى طبقات زمنية ثلاث: زمن أسطوري لا يحدد فيه جغرافيا المكان، وزمن ما قبل 500 سنة تقريبًا، ثم الإشارة بذكاء إلى الزمن الراهن بأحداثه الملتهبة والفتن التي تتعرض لها بلادنا في الوطن العربي. وختم طه حديثه قائلًا إن: "الملاحظة الوحيدة على الرواية هي الإكثار من الاستشهاد بنصوص صريحة من الكتب السماوية الثلاثة". أما الشاعر هشام العربي، الذي أدار الندوة، فأشار إلى أن صلاح مطر قد "يقسو" على القارئ بكثرة الأسماء الواردة في الرواية وتدفق الأحداث؛ ما يتطلب من القارئ أن يكون منتبهًا طوال الوقت، فهو "أمام نص غير تقليدي يمكن أن يجهد القارئ العادي". وردًا على ذلك، قال الشاعر شعبان يوسف، المشرف على ندوات ورشة الزيتون، إنه ضد مصطلح "القارئ العادي" الذي "قد يوحي بأننا نحن الكتاب نتعالى على القارئ بنصوصنا، في حين أن القارئ نفسه قد يتلقى النص غالبًا بطريقة أسهل حيث يكون غير محمل بنظريات نقدية وأنماط فكرية مسبقة". يذكر أن "الجراد الأبيض وثلاث مومياوات أعلى النهر" هي العمل الرابع لصلاح مطر، حيث نُشر له من قبل "أحلام فقيرة" مجموعة قصصية، و"نمل وفتات" رواية، و"الجسر الأزرق" رواية، والأخيرة تعد الجزء الأول من ثلاثية تحمل الاسم نفسه، فيما تعد "الجراد الأبيض" هي الجزء الثاني منها، ويعكف الكاتب حاليًا على كتابة الجزء الثالث.