مع أن شهود فاجعة بورسعيد لم يتركوا شاردة أو واردة إلا ووقفوا عندها فى وسائل إعلام مختلفة، إلا أن هناك جوانب لا تزال خافية على كثيرين منا. لذلك فالاقتراب من مزيد من الشهود، خاصة من ألتراس أهلاوى، قد يكشف عن أبعاد جديدة تساعد فى الوصول للحقيقة، التى يحاول البعض طمس معالمها، والبعض الآخر يسعى نحو إدخالها فى دروب ودهاليز بشكل يصعب معه التفرقة بين الحقيقة والخيال. بوابة الأهرام التقت أحمد عاطف أحمد (20 سنة) وهو أعضاء "ألتراس أهلاوى" وسرد عليها أحداث موت معلن، منذ بداية الرحلة وحتى نهايتها المفجعة. "تجمعنا فى محطة مصر فى تمام الساعة 11 صباح الأربعاء 1 فبراير 2012، وهو اليوم الأكثر مأساوية فى حياتى، ولم أكن أعرف أننى ذاهب إلى الموت.. والآن لا أصدق أننى ما زلت من الأحياء، أنا شلت ناس بإيديا ماتوا فى بورسعيد ".. بهذه الكلمات بدأ عاطف كلامه مع "بوابة الأهرام". وقال "ركبنا القطار وكان عددنا 2000 شخص تقريبا، علمت العدد من التذاكر المخصصة لنا، جلسنا، ومنذ بداية الرحلة ونحن نغنى ونهتف، وكان بجوارى أنس (الضاحك الذى أبكى الملايين) والذى لم يتوقف عن الضحك والتهريج طوال رحلة الذهاب. بدت علي عاطف علامات الدهشة وهو يستعيد ذاكرته. وقال توقف القطار فى محطات (قليوب – منيا القمح - الزقازيق ) على الرغم من أننا علمنا أن خط سيره مباشرة إلى بورسعيد، فالقطار لم يكن به ركاب سوى أعضاء الألتراس، على حد قوله، لكن على العموم، ولا حد ركب ولا حد نزل. سألته إذا كان قد أخذه الفضول لمعرفة ما يحدث خارج القطار على محطات التوقف، فأجاب أن "الكابو كريم" – للعلم "الكابو" لفظ يطلق على رئيس رابطة الألتراس - حذرنا مرارا من عدم النظر من النوافذ أو حتى فتحها لأنه قد توارد إلى علمه احتمال حدوث اشتباكات فى الاسماعيلية، وهنا كانت بداية مسلسل مفارقات هذا اليوم الدامى، فبمجرد دخولنا (التل الكبير) فوجئنا ببعض المجهولين يقذفون القطار -بشكل مكثف- بالحجارة وزجاجات المولوتوف مما تسبب فى كسر زجاج بعض نوافذ القطار، كما قاموا بالقاء 3 (باراشوتات) –بالعدد- على القطار، سألته ما المقصود ب (الباراشوت)، أجاب بأنه نوع من أنواع الألعاب النارية الشديدة الخطورة والتى إذا التقت مع أى مصدر قابل للاشتعال تسببت فى كارثة محققة، ونحمد الله أنها كانت بعيدة عن خزان بنزين القطار وإلا احترق لا محالة. استكمل (أحمد) كلامه بالمفارقة الثانية وهى إبلاغهم بالنزول من القطار، بأمر من لواء جيش، فى قرية صغيرة قبل مدينة بورسعيد بحوالى 30 كيلو مترا، كانت فى انتظارهم هناك أتوبيسات وعربات أمن مركزى لنقلهم إلى الاستاد. استغربنا هذا كثيرا وشرع بعضنا فى الحديث مع القائد العسكرى وأخبرناه بما حدث فى (التل الكبير) وسألناه عن ما إذا كان الوضع آمن من عدمه، وجاءت إجابته، على عكس الواقع، الوضع تحت السيطرة ولا توجد مخاطر وأن اللاعبين فى أمان. فى ذلك الوقت كانت قد وردت إلينا معلومات تؤكد تعرض لاعبى الأهلى أثناء التدريب لبعض المضايقات من قبل مشجعى المصرى، وأثناء حديثنا مع اللواء تدخل (كريم الكابو) وأمرنا بالصعود للأتوبيسات دون الحديث أو التفوه بأى كلمة. أضاف (أحمد) أن الأجواء فى بورسعيد كانت مريبة إلى حد كبير، وتوحى أن هناك شيئا سيئا سيحدث، لكن لم نكن نعرف ماهيته. يصمت عاطف قليلا ثم يكمل حديثه قائلا: دخلنا الاستاد ووجدنا فى استقبالنا، أمام الباب، عدد قليل من الشباب قاموا بإلقاء الحجارة علينا، لم نهتم بهذا، ودخلنا الاستاد من بوابة واحدة كانت مخصصة لمشجعى الأهلى من دون أى تفتيش. ولم تكن أى بوابة عليها لحام، سواء البوابة الأولى التى دخلنا منها والثانية التى كانت مغلقة بقفل فقط، وضع عليها لحام بين الشوطين. والبوابة التى حاولنا الاستنجاد بها، لم تسعفنا. استطرد (أحمد)، بمجرد دخولنا والجلوس فى المقاعد المخصصة لجمهور الأهلى بدأ جمهور المصرى فى توجيه سيل من السباب إلينا وتهديدات مصحوبة فى بعض الأحيان بالأحجار، وقالوا لنا "العلقة بره". كان ذلك خلال الشوط الأول، وبدأ الاحتقان فى الازدياد مع كل هدف يدخل فى شباك الأهلى. وكنا نفاجأ بنزول مشجعي (المصرى) لاحتضان اللاعبين. الأمر الذى لم يحدث فى أى مباراة فى العالم، كيف سمح الأمن لهؤلاء بالنزول لأرضية الملعب هذا ما لم نعرفه حتى الآن؟ فى حديثه، أنكر (أحمد عاطف) بشدة مسئولية ألتراس أهلاوى عن "اليافطه" التى أثارت الجدل وقيل أنها تسببت فى استفزاز جماهير (المصرى)وأشعلت الأزمة، وقال أؤكد أننا لم نحضر معنا سوى أعلام الأهلى وأعلام مصر.. نعم كانت معنا شماريخ كثيرة، لكن لم نستخدمها سوى فى الشوط الأول ومع إحراز الهدف. أما هذه (اليافطة) فقد ظهرت لمدة دقيقتين فقط خلال الشوط الثانى ثم أختفت، وأنا رأيتها بنفسى لأن المسافة بينى وحامليها لم تتعد مدرجين. أضاف (أحمد ) فى حديثه، أن أول ما فهيم عمر (حكم المباراة)أعلن إنهاء المباراة بفوز النادى المصرى (3/1)، فوجئنا بزحف "مصراوى" ناحية الملعب ومنه صعدوا إلى مدرجات الأهلى، بالمنظر الذى رأيناه جميعا، لكن أؤكد لكم جميعا أن الأمر هناك كان أبشع مما يتخيله أى عقل وتعجز أى كلمات عن وصفه، فلك أن تتخيل إننا كنا نجرى فوق جثامين أخوة لنا. الغريب فى الأمر، كما يقول أحمد، أنه فى الوقت الذى تعمدت فيه إدارة الاستاد إطفاء جميع كشافات الملعب، تم تشغيل أغنية للفنان حكيم (عالطبلة كله يرقص) على السماعات المركزية للاستاد بأعلى صوت، بمجرد إنتهاء المباراة وفور نزول (الجناه)، وأنا أرى أن هذه الأغنية إما أنها (سيم) –كلمة الاتفاق- بين الجناه، أو تم تشغيلها للتشويش على أصوات استغاثاتنا، وما لم أستطع تفسيره حتى الآن كيف تم تشغيل سماعات الاستاد فى ذات الوقت الذى حدث فيه انقطاع كامل للكهرباء؟ يقول (أحمد) بحسره شديدة، زمايلى ماتوا قصاد عينى، فأنا رأيت 4 ماتوا أمامى، أحدهم بطعنات من سلاح أبيض كان ملاصق لى سمعت الجانى يقول له، "أنت لابس أحمر ليه مفيش أحسن من الأخضر يا أبن ......."، وغيرهم من تم خنقه ب (الكوفيه)، ومن ألقى من أعلى المدرجات خارج الاستاد، هذا كله رأيته بعينى وسمعت توسلاتهم ورجاءاتهم التى لم يعبأ بها معدومى الضمير، حسبى الله ونعم الوكيل. ولكن يؤكد (أحمد) أن اللهجة التى كان يتحدث بها هؤلاء الجناه، وفقا للكلمات التى كانوا يرددونها أثناء الضرب ويحدثون بها جمهور الأهلى إنها لكنه بورسعيدية، حيث يقول إن أحدهم جاء إليه وسأله عن ماهيته فأجاب بأنه من بورسعيد، ولهذا السبب وحده نجا (أحمد) من موت محقق، وما ساعده على ذلك عدم إرتدائه تيشرت الأهلى (الأحمر)، ويستكمل (أحمد)، وعيناه تمتلئ بالدموع، هما كانوا عايزين الأهلاوية بس. مرت علينا تلك اللحظات وكأنها ساعات فقدت فيها أى أمل فى العودة لأهلى، لدرجة أننى فكرت فى الهروب عن طريق السور لخارج الاستاد ، لكن الارتفاع كان شاهقا للغاية، حاولت السير ناحية غرف اللاعبين. وعلمت أن الأمن يتواجد هناك بكثافة، بعد أن فقدت القوات المتواجدة فى المدرجات السيطرة على الموقف، نظرا لأن هدفهم الأول كان حماية اللاعبين. سألت (أحمد) عن نوع الأسلحة التى استخدمت، فأجاب بحسرة شديدة، الأسلحة كانت عبارة عن خشب (شوم)، حديد (التراك) الكبير، مطاوى، سنج، استخدموها بعشوائية وبلا أى رحمة، والأكثر بشاعة حمل الشباب وإلقائهم من فوق المدرجات ومن هذا الارتفاع الشاهق. قال (أحمد): أنا أدعو منذ عودتى أن يسامحنى ربنا فى ناس "دوست عليهم غصب عنى وأنا بجرى كانوا تحت رجلينا، ناس كتير وقعت واللى كان بيقع مش بيقدر يقوم خلاص. سرت حتى وصلت غرفة الملابس، بعد عناء. وهناك كان الجزء الثانى من تلك الجريمة البشعة، حيث المصابون على الأرض وبجوارهم لاعبون فى حالة انهيار تام، كان جميع لاعبى الأهلى موجودين إلى جوار المصابين، في ما عدا مانويل جوزيه سمعنا أن كابتن كامل أبو على (رئيس النادى المصرى) كان قد اصطحبه إلى مكتبه، لحمايته، وكابتن (أبوتريكة) لقن الشهادة لإثنين من المصابين قبل أن يلفظوا أنفاسهم الأخيرة.