عندما أصدرت الحكومة، قرار تعويم الجنيه، عاش مستوردو الأحذية أيامًا عصيبة، ولم يكن أمامهم سوي خوض مغامرة التصنيع، بالاعتماد علي الأيدي العاملة المصرية، التي عانت لسنوات طويلة من البطالة، بسبب الغزو الصيني للصناعة، لتتحول "منطقة باب الشعرية" بوسط القاهرة، من مقر لكبري شركات الاستيراد وتوزيع الأحذية، لمجتمع صناعي متكامل، كما كانت قبل سنوات طويلة، عرفت فيها المنطقة، بأنها مقر لتجمع صناع وتجار الأحذية في مصر. بوسط ميدان باب الشعرية، بالقرب من تمثال الفنان الراحل "عبد الوهاب"، يمكنك أن تري أضواء شركات استيراد الأحذية، التي اتخذت من الميدان، بنايات كاملة مقراً لها، تتلألأ علي واجهتها الأنوار، لتضيء أسماء شركات كتبت باللغة الأجنبية. المنتج الصيني يختفي من " درب أية" في ميدان باب الشعرية، يوجد أكبر تجمع لمحلات بيع الأحذية الجملة، والمعروف باسم"درب أية"، والذي يقصده أصحاب محلات الأحذية، من كل مكان في مصر، في القاهرة والمحافظات، وهو عبارة عن شارع ضيق، مزدحم عن أخره، لايتعدى عرضه 3 أمتار، يتفرع منه شوارع أخري جانبية، ينتشر علي جانبيه، محلات تم تجهيزها علي أعلي مستوي، حول أصحابها بنايات الشارع لمخازن لمنتاجاتهم، وتسببت أوناش الرفع، في توقف حركة المرور في الشارع، أثناء رفع وتنزيل البضائع للمحلات. أمام إحدي هذه المحلات، وقف محمد أمين الشاب العشريني، الذي يعمل في مجال بيع الأحذية بالجملة يقول:" قبل قرار تعويم الجنيه، كانت 90% من الأحذية المتواجدة في السوق مستوردة، وكان المنتج الصيني يسيطر علي السوق، بسبب رخص سعره وجودة تشطيبه، أما الآن فقط اختلف الوضع، وأصبح المنتج المصري، هو المسيطر علي السوق، بنسبة تصل ل 85% بسبب انخفاض سعره، ومنافسته للمستورد". بعد قرار تعويم الجنيه، وصل سعر الحذاء المستورد من الصين لأرقام فلكية، وتضاعفت جملته أكثر 3 مرات، وهو ما خلق حالة من الركود في السوق، صاحبه نقص في المنتج، وهو ما فتح الطريق لعودة صناعة الأحذية من جديد. ورشة أحذية يمسك "محمد" بحذاء من وسط مئات الأحذية، المعروضة بالمحل التجاري الذي يعمل به، التي كتب علي أغلبها، أسماء ورش أحذية مصرية ويكمل حديثه:" هذا الحذاء صيني مستورد، كانت جملته في الماضي 45 جنيهاً، الآن وصل سعره لأكثر 145 جنيهًا جملة، وقد يصل سعره في المحل لأكثر من 300 جنيه، وهو ما جعلنا نعتمد علي المنتج المصري، بسبب سعره المناسب". يقارن محمد بين المنتج الصيني والمصري يقول:" المنتج الصيني أفضل في التشطيب، وأحدث في الموديل، بفضل المكن الحديث والكميات الضخمة التي تنتجها الصين، أما المصنع المصري، فلا توجد لديه الإمكانيات الكافية، لصناعة حذاء بجودة الصيني، ولكن يتطور بشكل سريع جدًا، بسبب المنافسة بين الورش والمصانع، التي اقترب بعضها من جودة الصيني". يشير الشاب العشريني إلى أنه بالرغم من الركود الذي، يعاني منه السوق في الوقت الحالي، إلا أن ورش ومصانع الأحذية، تعمل علي مدار 24 ساعة، لتلبية طلبات السوق، وسد العجز الذي خلقه وقف الاستيراد، وتتنافس فيما بينها، للوصول لأعلي جودة بأقل سعر. ورشة أحذية الحياة تعود لورش باب الشعرية خلف الواجهة التي تحتفط بها منطقة "باب الشعرية"، والتي تتصدرها الأضواء المتلألئة في الميدان، ومحلات تجارة الجملة، التي تم تجهيزها علي أعلي مستوي، تعمل ورش الأحذية، علي مدار 24 ساعة، لملاحقة قطار التطور، وسد احتياجات السوق. في شوارع ضيقة وممرات منحنية، تنتشر محلات بيع خامات ومستلزمات ورش الأحذية، والصناعات التكميلية، التي تقوم عليها الصناعة، مثل صناعة الكارتون ومطابع "الاستكرز"، وصناع "الإسطنبات الخشبية"، لتشكل باب الشعرية، بمناطقها وحواريها " الطشطوشي، والبنهاوي، وباب البحر وشارع الجيش"، وغيرها مجتمع صناعي متكامل، تدخل إليها الخامات، وتخرج في شكل منتج نهائي أحذية. في إحدي هذا البنايات، توجد ورشة "خالد أنور"، وهو أحد مستوردي الأحذية من الصين، كان في الماضي يورد البضائع التي يستوردها للتجار في "درب أية"، ويوزعها علي المحلات، وبعد إغلاق الاستيراد، وارتفاع سعر الدولار، لم يجد وسيلة للاستمرار، سوي خوض تجربة التصنيع، ليحقق في أقل من عامين، نجاحا كبيراً ويتوسع في صناعته. في إحدى الورش التي يديرها، لانتاج كميات البضائع، التي كان يستوردها سنوياٌ، وقف "خالد" وسط الصنيعية، وهم يقومون بتحويل الخامات لاحذية، في شكلها النهائي، بداية من "التفصلجي" الذي يقوم بتقطيع الخامات لشرائح، حسب الموديل المراد تصنيعه، ومروراً ب "المكانجي"، الذي يقوم بتجميع قصاصات الجلد وخياطتها بحرفية، وصولاً لمرحلة التجميع ولصق النعل، وأخيراً التشطيب وتعبئة المتنج النهائي، في صناديق الأحذية، التي تحمل شعار "صنع في مصر". ورشة أحذية خالد هو شاب ثلاثيني، بدأ عمله في مجال صناعة الأحذية، منذ ما يقرب من 10 سنوات، تحول خلالها لمستورد، وبعد وقف الاستيراد، بسبب ارتفاع سعر الدولار، لم يجد أمامه طريقاً سوي اللجوء للتصنيع، والاعتماد علي الصنيعي المصري، بعد أن أغلقت الحكومة أبواب الاستيراد من الصين. قصة "خالد" وتحوله للتصنيع، هي قصة مئات المستوردين، في جميع المجالات، الذين لم يجدوا غير التصنيع سبيلاً للاستمرار في السوق، بالاعتماد علي أياد مصرية، وهو ما يكشف جزءًا من خطة الدولة، للتحول الصناعي بعد إغلاق الاستيراد. يقول خالد :" قبل عامين من الآن، كنت عبارة عن مستورد وسيط، أسافر للصين مرة كل 6 أشهر تقريباً، مرة قبل بداية موسم الصيف وأخري قبل موسم الشتاء، كنت استورد بحوالي 10 ملاينن جنيه، ولكن بعد ارتفاع سعر الدولار، كان الوضع صعبًا للغاية". يسرح الشاب الثلاثيني بعيداً، وقد ارتسمت علي وجهه ابتسامة ويكمل:" بعد ارتفاع الدولار وقفل الاستيراد، ظننت أن كل شيء راح، وأن مستقبلي في هذه المهنة انتهي، لم أكن أعرف أن باب الخير اتفتح، وربنا هيكرمنا الكرم ده، الحمد الله أي موديل بنصنعه، بشوية جهد ووقت هنوصل لجودة الصيني". يشير الرجل علي عدد من الماكينات، وتجهيزات ورشته، التي تمكن بفضل البدء في التصنيع من تجهيزها، بالاعتماد علي عدد من الصنيعية المهرة، في مجال تصنيع الأحذية، الكل يعمل بدون توقف، لتلبية احتياجات التجار والسوق.
يكمل خالد حديثه :" لأننا كمستوردين، علي علم بما وصلت إليه أخر تطوارات الصناعة، بما نملكه من خبرة زيارة المصانع الصينية، فلم يكن الأمر صعبًا علينا، أعدنا الحياة لورش باب الشعرية، التي كانت أغلقت أبوابها، بسبب وجود المنتج الصيني، الذي يمتاز بالجودة وانخفاض سعره، وفتحنا مجالات للصنيعي المصري". يكشف خالد عن عودة عدد كبير من الصنيعية للعمل، بعد أن تركوا المهنة، ودخول مستثمرين جدد لاستثمار في مجال صناعة الأحذية، لتصنيع النعل، ومحاولة تصنع الإكسسوارات والخامات، التي تعتبر العائق الوحيد الآن أمام انطلاق الصناعة لأفاق عالمية.
كل ما يطلبه خالد، هو عمل الدولة، علي توفير الخامات الأساسية للصناعة، وهي استثمارات ضخمة وتحتاج لتكنولوجيا متطورة، مكسبها مضمون بنسبة 1000%، لأن كل الورش التي تصنع الأحذية، لا تسيطع الاستغناء عن الخامات، والتي تعتبر المسمار الأخير للصين في هذه الصناعة. ورشة أحذية الصنيعية : "أصبح لنا قيمة" عندما غزت الصين السوق المصرية، بأحذية وموديلات جديدة، أجبر الصنيعية في هذه المهنة، أما علي تركها، أو العمل في مواسم معنية، أما الآن فلسان حال العمال يقول "أصبح لنا قيمة"، بعد إغلاق الاستيراد. خلف ماكينة خياطة تعمل بدون توقف، جلس محمد الفقي، رجل في أواخر الأربعينات، يحمل شهادة جامعية، ويعمل في مهنة صناعة الأحذية، منذ أكثر من 30 عاماً، تعرف خلالها علي أسرارها، وعاش أيام صعودها للسماء وليال هبوطها وهروب الصنعية منها، بسبب إغلاق الورش، واعتماد السوق علي المنتج المستورد. يقول الفقي وهو منهمك في عمله:" أفضل قرار اتخذته الدولة هو قفل الاستيراد، ومنع إغراق المنتج الصيني للسوق المصرية، أحنا كصنعية أصبح لنا قيمة، أصحاب الورش والمصانع يتنافسون لإرضائنا والحفاظ علينا، عاد الوضع كما كان في السبعينات والثمانيات، وقت أن كانت مصر تصدر أحذية لكل الدول العربية، والورش تعمل ليل نهار". ويضيف الفقي وهو يشير علي الورشة:" مئات الورش كانت أغلقت أبوابها، ولم تستطع الوقوف أمام الغزو الصيني للسوق، وكان عمل الورش يقتصر علي المواسم فقط، أو أيام محدودة في الأسبوع، أما الآن فقد عادت الورش للعمل، وعاد عدد كبير من الصنعية للمهنة، وأصبح العمل طوال الأسبوع وفي الأجازات أثناء المواسم". يلتقط منه طرف الحديث زميله، هشام أبو الحسن، يقول:" مستوي الصنيعي المصري، يتطور بسرعة شديدة، من كثرة الشغل، الورش والمصانع بتشتغل أكثر من وردية، لتلبية احتياجات السوق، الحمد الله المهنة فتحت مرة أخري، الخطوة الأخيرة، هي توفير الخامات، وتكنولوجيا التصنيع الحديثة". تركنا ورشة خالد، وقد انهمك الجميع في العمل، الدقيقة تساوي بالنسبة لهم "إنتاج"، يتم ترجمته لفلوس لصاحب الورشة والصنيعي. ورشة أحذية بعد غلق الاستيراد المصري يكسب.. ورش أحذية "باب الشعرية" تهزم الصين