أذهلتني ردود الأفعال على ما قاله الدكتور يوسف زيدان عن الزعيم التاريخي أحمد عرابي، فغالبية الردود مرصعة بالسباب والشتائم. وكان صاحب رواية "عزازيل" قد هاجم قبل فترة القائد التاريخي صلاح الدين الأيوبي، ووضع في مرمى الهجوم المخرج الكبير يوسف شاهين، لأنه أخرج فيلم "الناصر صلاح الدين"، وأن الفيلم يحمل مغالطات تاريخية، وأن شاهين كان يجامل الرئيس جمال عبدالناصر، بطريقة غير مباشرة، وجاء الرد على زيدان مزينًا بالسباب والشتائم أيضًا، وأستثني من ذلك رد المخرج خالد يوسف الذي ناقش زيدان مناقشة علمية رفيعة المستوى. وقد يكون لدى زيدان - وهو مفكر ومحقق تراث وروائي مهم - رغبة في إلقاء حجر كل حين، في قلب بحيرة يراها راكدة، ليحرَكها ويُحدث فيها موجات نقاشية، يكون من شأنها إذا جرت بشكل محترم، أن تعيد إنتاج المعرفة، وأن تصوب الأمور المعوجة، وتصحح بعض المفاهيم، سواء لجهة تأكيدها أو نفيها. وقديمًا قال الكاتب والفيلسوف الفرنسي فولتير "قد أختلف معك في الرأي ولكنني على استعداد أن أموت دفاعًا عن رأيك".. لكن هذه المقولة غائبة في مصر حاليًا.. بدايةً فإن زيدان لم يخترع جديدًا، وهناك من المؤرخين والمثقفين المصريين من هاجم عرابي في حياته وبعد مماته، وكما أن كثيرين كتبوا عن "الثورة" العرابية، فإن آخرين كتبوا عن "هوجة" عرابي. وإذا كان هناك من اعتبره محركًا للوعي ومؤشرًا على قدرة "الفلاحين" المصريين على الثورة والمطالبة بحقوقهم، وأنه دافع قدر الإمكان هو ورفاقه من الجيش المصري، عن البلاد ضد الغزو البريطاني لمصر، فإن البعض اعتبره سببًا في ذلك الاحتلال الذي دام سبعين عامًا. أما زيدان فقد تبنى كل الآراء الناقدة والسلبية عن عرابي، وعن دوره في التاريخ المصري الحديث، وأضاف إليها - في حديث تليفزيوني أخير - أن عرابي لم ير الخديو، ولم يقف أمامه في ميدان عابدين يوم 9 سبتمبر 1881، ولم يقل له "إننا لن نورث بعد اليوم"، وأن تحركاته كانت لأسباب شخصية، ورغبة منه أن يحكم مصر، على الرغم من أنه غير مؤهل لذلك. هذا طبعًا أكثر من حجر على البحيرة.. فأجيال منا تلقت التاريخ في المدارس على المنوال المعروف بأن عرابي زعيم خرج يطالب بحق المصريين ضد الحكم الأجنبي ولمنع الامتيازات المجحفة لهم، وتقديم رؤى مختلفة لحل أزمة ديون مصر التي خلفها عصر إسماعيل، وكان على الخديو توفيق أداؤها، وأنه رفض ردم قناة السويس خلال المعركة، بعد تلقيه وعدًا من دي ليسبس بوقوفها على الحياد، فكانت واحدة من الخيانات الغادرة. وقفة عرابي راكبًا جواده سالًا سيفه ومن حوله ضباط السواري، أمام الخديو توفيق ثابتة، وكانت في حضور فرق من الجيش المصري، وحشود من الناس وقناصل الدول الأجنبية، ومراسلي صحف مصرية وأجنبية، الوقفة حقيقة تاريخية، وتقديم المطالب الوطنية واقعة مؤكدة، وإن كان حديث "لن نكون عبيدًا بعد اليوم" فيه مبالغة من عرابي نفسه، عندما كتب مذكراته فيما بعد. كثير من الكتابات وصفت هذه الوقفة، وأستند هنا إلي كتاب "مصر للمصريين" للكاتب والصحفي اللبناني سليم النقاش، الذي كتب في الجزء الرابع من الكتاب: "وكانت ساحة عابدين غاصة بجماهير المتفرجين من أجانب ووطنيين ونوافذ البيوت المجاورة للسراي وأسطحتها ملأى بالنساء المتفرجات".. ويسأله الخديو: "وما هي أسباب حضورك بالجيش إلى هنا؟".. عرابي: "لنوال طلبات عادلة". الخديو: "وما هي هذه الطلبات؟" عرابي: "هي إسقاط الوزارة، وتشكيل مجلس للنواب، وزيادة عدد الجيش، والتصديق على قانون العسكرية الجديد، وعزل شيخ الإسلام". الخديو: "كل هذه الطلبات ليست من خصائص العسكرية". فلم يجبه عرابي، وقد أشار القناصل على الخديو أن ينقلب إلى ما داخل السراي؛ خوفًا مما عسى أن ينشأ عن تلك المخاطبة من الضرر، وصار المستر كولفن (المراقب البريطاني في مصر) وقنصلا إنجلترا والنمسا على أثر ذلك عبارةً عن رسلٍ بين الخديو وعرابي". و"بعد ثلاث ساعات من المداولة بين القناصل والخديو داخل السراي استقر الرأي على إجابة طلباته، وإنفاذها بالتدريج فرضي عرابي بذلك، مشترطًا عزل الوزارة قبل انصراف الجيش فعُزلت". وأصبح عرابي بطلًا شعبيًا، وكلما ذهب إلي مكان "يستقبله الناس بالفرح والسرور ومزيد من الاحتفاء"، كما يذكر النقاش في كتابه. بعد هزيمة التل الكبير قُبض على عرابي ورفاقه، وجرت محاكمتهم تحت إشراف اللورد دوفرن أول مندوب سام بريطاني، والتي أسفرت في النهاية عن نفيه مدى الحياة (وكان الحكم الأول هو الإعدام) مع وعائلته وبعض من رفاقه إلى جزيرة سيلان، وأمضى هناك 20 عامًا، ثم عاد بعفو من الحكومة البريطانية، بعد تدخل من أصدقائه، السير توماس ليبتون ملك الشاي الشهير، والسياسي ويلفريد بلنت، وتفرغ عرابي بعد العودة لقضاياه مع الحكومة المصرية؛ المتعلقة بمعاشه وأملاكه المصادرة، وكتابة مذكراته، والرد على اتهامات مشابهة لما ألقى به الدكتور زيدان أخيرًا. وطنيون ومؤرخون كثر أنصفوا عرابي، لكنه لم يجد من أنصار السراي واللوبي العثماني والإقطاعيين والأجانب، أي إنصاف يذكر، لكن عرابي الذي أسس مدرسة حديثة هناك، عاد إلى وطنه حاملًا أول شجرة مانجو لزراعتها في مصر.