تقفز مشاعرك إلى السطح وأنت تقرأ أشعاره، إذ تجد شاعرًا يمشي بين غيوم الصمت المتلبد في أركان البيت، والأولاد نيام في جنات الخفة، وزوجته "رولا" ما إن تترك حرف صلاة حتى تمسك بأخرى، وذئب يبحث عن دمه .. رائحة الظلم. تجد شاعرًا يعدُّ الكواكب، وهي تتهاوى، وبعضها يتدلى على كتفيه، وهو ينادي حبيبته رولا باسم السماء الكئيبة، باسم الجهات الجريحة، باسم المساء الحزين .. يعيد القراءة في شرفات الصدى، بينما هو يشرب يشرب، ويُرتِّل على كل مقبرة يعبرها (موطني.. موطني)، فيوقن أنها أصبحت أقرب مما يظن، وأنها لابد آتية، ربما الآن، أو ربما بعد حين، فتدرك أنه يناجي محبوبته "رولا" بصفتها فلسطين .. تقرأ ديوانه هذا، بعنوان "ذئب المضارع" الصادر أخيرًا عن الدار الأهلية للطباعة والنشر، فتزيحُ أنزياحاتُهُ الشعرية مفاهيمك اللغوية، وتجعلك تدور في فلك مجنح .. تجده في هذه الأنزياحات يشرب الليل، والناس، من دون سوء، ويرجع كل مساء خفيفًا إلى وحدته .. يسلِّم على الطيبين .. على الأمهات الفلسطينيات الصغيرات، حين يشعشعن في زفة الشهداء، بلا غبش ناصعات الجبين، وهو يقول: "سلامي عليهن حين يطرزن ليلك بالأغنيات وفجرك مع كل تكبيرة بالحنين .. سلامي على الشهداء وقد صعدوا دربهم ياسمين ..." ومن النادر أن تجد شاعرًا بيتوتيًّا، مثل "نضال برقان"، إذ تجده يقدم فروض الولاء، والمحبة لزوجته، وأطفاله، في بقاع كثيرة من أشعاره، إذ يقول في كثير من الصفحات، ومنها صفحة 45: "يا "رولا" كم أحب النداء عليك فظلي هناك على حفة اسمكِ مشغولة بصلاتك وضّاءة بحنينك ماطرة في الصدى كي أظل أنادي: "رولا" يا "رولا"." وهنا – بدعابة أقول- ، تجد أنه يضع اسم "رولا " في كل مرّة محفوظا بين مزدوجين، شعرت وكأنه يقول : "يا لغة، ضعي "رولا" في الحفظ والصون بين جناحيك ..". وهو يذكرني في هذه العجالة بالشاعر نزار قباني، الذي قال عن زوجته بلقيس: "أشهد أن لا امرأة ً أتقنت اللعبة إلا أنت واحتملت حماقتي عشرة أعوام كما احتملت واصطبرت على جنوني مثلما صبرت وقلمت أظافري ورتبت دفاتري وأدخلتني روضة الأطفال إلا أنتِ" .. ولا يقف نضال برقان عند حد زوجته، إذ يتبعها بالصغار لقوله "في صفحة 63": "أشم القصيدة في البيت مغسولة بربيع الصغار ومأخوذة بشتاء رولا" ثم يصف خدماته لبيته، وزوجته، وهي يدور في السوق يشتري أغراض البيت : "أشم القصيدة في السوق خضراء كالبامياء وحيث ينادي على عنب بائعٌ وتبحث أنثى عن اللوبياء.." أسوق هذه الصور لأن كثيرًا من الشعراء يصفون مجونهم، وشابهم المسكر، بينما هم يصفون نساءهم بالتقى، والورع، والصلاة، والصوم، والاحتشام .. ولكن حالة نضال حقيقة مختلفة ، فهو بسيط لدرجة أن عصفورة تأكل حبات قمحه، ولكنه في إبداعاته فاعل مهول، إذ تجده في مواقع قيادية في تحرير الصحف، والمجلات الثقافية المتعددة، وذلك لا ينبع من اعتماده على جهات سلطوية، أو جهات خفية، ولكنه كما هو معطاء لزوجته، وأطفاله، بمنتهى النقاء، والبراءة، التي تراها متفتحة على وجهه البسيط .. تجده معطاءً لجميع زملائه في الجريدة، أو المجلة، أو في إدارة رابطة الكتاب الأردنيين، إذ انتخب بديمقراطية مطلقة، بأصوات قياسية .. وملاحظة أخرى لم تفتني، وهي تدل على أنه يعيش غاصًّا في مطبخ الصحف، إذ يقول في صفحة 46: "في المساء أجر حطامي وأرجع للبيت وجهي مسكون بمعاناة شديدة ودمي كالح ككلام الجريدة ...." تقرأ هذا، وأنت لا تعرف أنه يعمل مدير التحرير الثقافي في صحيفة رئيسة في الأردن، هي صحيفة (الدستور)، ولهذا فهو يرى أن كلام الصحف باهت كالح، نظرًا لكثرة تقالُبِ المحرر المراقب المسؤول، على صفحات رخيصة، يميزها عن المواد المبدعة، ويتعامل مع الزملاء الكتاب، والقراء، والمحررين، والمدراء، والرؤساء، والنادلين، ومع الرقابة ، ومع محاسب الرواتب غير المدفوعة له، ولزملائه منذ سنين. في ديوانه الخامس، "ذئب المضارع"، هذا الذي صدر بعد ديوان "مصاطب الذاكرة" 1999، رام الله، وديوان "مصيدة الحواس" 2003، وديوان "مطر على قلبي" وزارة الثقافة الأردنية، 2005، وديوان "مجاز خفيف" دار ورد- 2010.. بعد هذه الدواوين الخمسة، تستفيق حواسك الخمس كلها، وهو ينقلك بين رجال بعتمتهم بيننا، بقوله : "الملاك.. الذي كان يحرسنا سرقته اللصوص أنا الآن وحدي .. كما أنتِ وحدكِ نبحث عن بعضنا في زحام الرجال الذين أقاموا بعتمتهم بيننا مثل أكذوبة دهمتها الحقيقة لكن حراسها لم يكونوا - كما زعموا - طيبين هم الآن حراس سوآتهم الخراب الذي بيننا والصدى يقتلون وهم يأكلون وهم يشربون وهم نائمون بجانب زوجاتهم يغنون للموت إذ يتنفس بين يديهم صباحٌ يغنون للموت أيضا وهم يقتلون .." تقرأ كثيرًا من هذه المشاعر الشعرية، فتجد أن "نضال برقان" يجيب ساءلته : هل سنهرب؟! بقوله : إلى أين ؟! فتقول له : "إلى حيث لا يقتلُ الناسَ ناسٌ" ... تقول هذا، وهي تفتش عن موتها في الزحام، بينما هو يفتش عما يضيء دمه في حطام السماء، التي انكسرت فجأة مثل أكذوبة، وهو يقول لها : لن أغادر.. وقبل غياب المقالة التي لم يشبع منها قراء المشاعر الجياشة ، أقتطف بضعة سطور قليلة من شجون نضال برقان، بقوله: "يا وردة كيف أشمك ثمة حربٌ ودمٌ وخراب يتنفس من رئتيّ وثمة موت يركض نحوي وثمة ما يتهدم من جسدي في قلبي جف النهر وها يبست عيناي وأنت أمامي لكني لا أعرف كيف أشمك" أكتب هذه السطور، فأتأكد ألّا نقدَ للشعر ، إلا بترديد صداه، ولا تعليق على الشعر، إلا بما كتبت يداه .. يدا نضال برقان. ---- صبحي فحماوي (كاتب أردني)