قال الدكتور أحمد الشوكي، رئيس دار الكتب والوثائق القومية، إنه قد تم الانتهاء من ترميم هذا المصحف المبارك الذي يعد من أقدم وأهم مقتنيات دار الكتب المصرية. وتعود قصة اليوم إلى أكثر من ألف وأربعمائة عام، وتحديدًا في عهد ثالث الخلفاء الراشدين ذي النورين عثمان بن عفان؛ حيث اتسعت في عهده رقعة العالم الإسلامي، وتفرق العرب في الأمصار المختلفة، ومعهم الصحابة يفقهونهم في أمور دينهم ودنياهم، وكان طبيعيًا أن يأخذ كل إقليم بقراءة من اشتهر بينهم من الصحابة فأهل الكوفة كانوا يقرأون القرآن الكريم بقراءة عبدالله بن مسعود، وأهل الشام كانوا يقرأون بقراءة أبي بن كعب. جاء ذلك خلال الاحتفال بانتهاء ترميم مصحف عثمان بن عفان، بدار الوثائق بالفسطاط بحضور، حلمي النمنم وزير الثقافة، والدكتور شوقي علام، مفتي الجمهورية، والدكتور مختار جمعة، وزير الأوقاف، وعاطف عبدالحميد محافظ القاهرة، والدكتور تيثم الحاج علي، رئيس الهيئة العامك للكتاب، والدكتور ممدوح الدماطي، وزير الآثار السابق، والقائمون بأعمال السفارة الفرنسية والهندية، وفريق عمل الترميم. وأضاف أنه كان بين القراءتين اختلاف في الأداء وفي وجوه القراءة، ناشئ عن أن كل منهما قد تلقى القرآن الكريم عن النبي محمد "صلى الله عليه وسلم" باللهجة التي ينطق بها لسانه، وقد استفحل أمر هذا الخلاف حتى تداركه عثمان بن عفان، فجمع أعلام الصحابة وتدارس معهم هذه الفتنة وأسبابها ووسائل علاجها، وأجمعوا أمرهم على ضرورة عمل نسخ من القرآن الكريم ترسل إلى الأمصار، وتكون أصلا للقراءة والكتابة، يرجع إليها كلما دعت الحاجة، ويأخذ عنها العرب جميعًا على اختلاف لهجاتهم، كما يأخذ عنها كذلك غير العرب من المسلمين، وتشكلت ما يشبه اللجنة لهذا الغرض كان من بين أعضائها زيد بن ثابت الذي نسخ القرآن الكريم قبل ذلك لأبي بكر الصديق (رضي الله عنه)، وقد حددت مهمة هذه اللجنة في أن تعمل على إخراج نص مكتوب للقرآن الكريم من الأصل المحفوظ عند السيدة حفصة أم المؤمنين، (رضي الله عنها). أما عن العدد الذي نسخ في عهد سيدنا عثمان ففيه اختلاف، ولكن الراجح أنه كان ما بين خمسة إلى سبعة مصاحف، وقد أوفد عثمان مع كل مصحف من المصاحف صحابياً يبصر بقراءته، وكان شرطًا أن يكون هذا الصحابي قد تلقاه بدوره من فم النبي، "صلوات الله وسلامه عليه". وأشار إلى أنه هذه المصاحف كتبت جميعًا بالخط المكي الجاف ذي الزوايا بدون تنقيط أو تشكيل أو أسماء للسور، وقد عرف فيما بعد بالخط الكوفي، بينما كانت المادة التي نسخت عليها المصاحف هي الرقوق المصنوعة من الجلد، وفي ذلك يقول القلقشندي في كتابه صبح الأعشى: "وأجمع الصحابة - رضي الله عنهم - على كتابة القرآن الكريم في الرق لطول بقائه، ولأنه الموجود عندهم حينئذ، وما كاد مصحف عثمان يصل إلى الآفاق الإسلامية، حتى سارع الناس إلى نسخه وأقبلوا على ذلك إقبالاً عظيماً. ورأى أنه في وقتنا الحالي هناك العديد من المصاحف التي يرجح نسبتها إلى تلك الفترة؛ فإلى جانب مصحف دار الكتب المصرية الذي بين أيدينا اليوم يوجد مصحف محفوظ بطوبقا بوسراي بتركيا، وآخر بطشقند، وأكملهم الذي كان محفوظا بالمشهد الحسيني بالقاهرة، وهو الآن بالمكتبة المركزية للمخطوطات التابعة لوزارة الأوقاف، هذا إلى جانب نسخ غير مكتملة بباريس ولندن وغيرها من المتاحف والمكتبات، وهذه النوعية من المصاحف لها مقاييس تكاد تتطابق، تتميز بكبر الحجم والضخامة على غير العادة، حتى إنه يصعب على رجل واحد أن يحمل هذا المصحف أو ينقله وحده، ويعود ذلك إلى أن هذه المصاحف كان لها وظيفة أخرى غير القراءة العادية؛ حيث كانت مخصصة للاحتفاظ بها لدى الولاة والحكام بهدف النسخ منها لكل الأمصار الإسلامية. وأوضح "ومن حسن الحظ أنه يمكننا أن نتتبع رحلة مصحف عثمان المحفوظ بدار الكتب الآن منذ وصوله إلى مصر وحتى هذه اللحظة؛ من خلال المصادر التاريخية، منها على سبيل المثال ما أورده المقريزي في كتابه الخطط في جزئه الرابع عند حديثه عن مدينة الفسطاط وجامعها العتيق؛ حيث ذكر لنا مصحفنا هذا في أحداث عام ثلاثمائة وواحد من الهجرة أي منذ ما يزيد على الألف عام حيث ذكر أنه ".... قد حضر إلى مصر رجل من أهل العراق وأحضر معه مصحفاً ذكر أنه مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه، وأنه الذي كان بين يديه يوم الدار، وكان فيه أثر الدم، وذكر أنه استخرج من خزائن الخليفة العباسي المقتدر، ودفع المصحف إلى القاضي عبد الله بن شعيب المعروف بابن بنت وليد، فأخذه أبوبكر الخازن وجعله في الجامع، وشهره وجعل عليه خشبًا منقوشًا، وكان الإمام يقرأ فيه يومًا، وفي مصحف أسماء بنت أبي بكر يومًا، ولم يزل على ذلك إلى أن رفع هذا المصحف، واقتصر على القراءة في مصحف أسماء، وذلك في أيام الخليفة الفاطمي العزيز بالله، لخمس خلون من المحرّم سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة (أي ظل يقرأ فيه حوالي سبعة وسبعين عاما).." وقد رآه المقريزي بنفسه في جامع عمرو بعد أكثر من أربعة قرون وقرأ بعض الكتابات التي كانت عليه، كما أشار إلى كرامة هذا المصحف عند أهل مصر وتصديقه أنه مصحف عثمان بقوله "... أن الناس قد جرّبوا هذا المصحف، وهو الذي على الكرسيّ الغربيّ من مصحف أسماء، أنه ما فتح قط إلّا وحدث حادث في الوجود.." أي ببركة القراءة فيه". وبعد مئات السنين أصبح المصحف بحالة سيئة من الحفظ نظرًا لطبيعة استخدامه طوال تلك القرون، كما كان غير مكتمل، وهو ما حدا بمحمد علي باشا أن يأمر بترميمه، وهو ما يعكس استمرار المكانة الكبيرة لهذا المصحف لدى المصريين في تلك الفترة، وقد كلف الناسخ محمد بن عمر الطنبولي بنسخ النص القرآني المفقود منه على الورق، وكان ذلك في عام 1246ه/1830م كما هو مسجل على المصحف. وبعد إنشاء دار الكتب المصرية بأربعة عشر عامًا تم نقل هذا المصحف في يوم مهيب إلى المقر القديم لدار الكتب المصرية بقصر مصطفى فاضل باشا وذلك في عام 1884م، وحفظ تحت رقم 139 مصاحف، ثم في عام 1904م انتقل هذا المصحف مرة ثانية إلى مقر دار الكتب الجديد الذي انشأ بعد ذلك بأمر من الخديو عباس حلمي الثاني بباب الخلق. وللمرة الثالثة ينتقل مصحفنا ليستقر أخيرًا، وهذه المرة في المبنى الذي شيد لدار الكتب المصرية بكورنيش النيل، وكان هذا في عام 1971م. وأضاف "وخلال هذه المراحل المختلفة كان هناك العديد من المحاولات لترميمه إلى أن تم اتخاذ القرار للتدخل العاجل في شهر مارس من عام 2011م، وذلك من خلال خبراء الترميم بدار الكتب المصرية بالتعاون مع جمعية المكنز الإسلامي لترميمه و رقمنته وتصويره تصويرًا عالي الجودة، وهو الأمر الذي سأترك تفاصيله لزملائي الذين قاموا بهذا العمل الشاق. بعد العمل المتواصل خلال هذه الفترة ها نحن الآن نحتفل معكم بإتمامه، وهو ما يعكس مدى حرص وزارة الثقافة المصرية ودار الكتب على حفظ وصيانة تراثنا المادي والديني؛ باعتباره جزءًا لا يتجزأ من هوية هذا الوطن". وختم كلمته "وفي الحقيقة فإن عملنا لم ينته بهذا الاحتفال، ولكن هناك العديد من الإجراءات التي سوف تتم في الأيام المقبلة؛ مثل مخاطبة المكتبات العالمية التي يعتقد أن بها الصحائف المكملة لهذا المصحف؛ لعمل معرض في مصر بالنسخ الأصلية مجتمعة لأول مرة، مع الحصول على نسخ إليكترونية منها، لجمعه إلكترونيًا وحفظ هذه النسخة بدار الكتب المصرية، وبانتهاء ترميم هذا المصحف، فإننا نفتح الباب واسعًا للمتخصصين للمزيد من الدراسات حوله للخروج بالعديد من النتائج التي نعتقد أنها ستكون شديدة الأهمية للعالمين العربي والإسلامي".