المستشار الدكتور محمد خفاجي رحل عن دنيانا منذ أيام - بلا ضجة أو ضجيج - المرحوم المستشار "عبدالباري شكري"، نائب رئيس مجلس الدولة السابق، رحل أحد المجموعة الشمسية لسدنة العدالة التاريخيين، وقد شرفت بالعمل معه بمحكمة القضاء الإداري بالإسكندرية، كمفوض للدولة أمام المحكمة في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي. وقد كانت أحكامه غرسًا طيبًا؛ لإحقاق الحق للمواطنين الذين يلوذون بالقضاء لينصفهم من ظلم وعسف الإدارات، كما كانت تلك الأحكام تبعث الدفء في النفوس، بل والحياة والأمل لغد مشرق، وقد رأيته إنسانًا بكل معاني الكلمة، يسخر علمه لمصلحة العدل، وكان مثالًا محصنًا منيعًا ضد كل طغيان، كما كان يحيط نفسه بتواضع العلماء، وصاحب مدرسة فريدة تقوم على تحقيق العدالة قبل النصوص، والقدرة على الإبداع والخلق الجديد الذي يزدان بطبيعة القضاء الإداري بحسبانه قضاءً إنشائيًا من نتاج الفكر الخالص للقاضي الإداري. وقد تولى المرحوم المستشار "عبدالباري شكري" رئاسة المحكمة الإدارية العليا في بداية القرن الحادي والعشرين، وأرسى العديد من المبادئ التي جعلت الأمل والنور لا ينقطع طالما ظل في الوجود عدلٌ وإنصافٌ، خاصة لخريجي كليات الحقوق المتفوقين، وأعلى من شأن المبادئ الدستورية، وظل سيفًا بتارًا يعلي من شأن النبوغ العلمي كشرط للالتحاق بمختلف الهيئات القضائية، ومازالت حيثياته التاريخية تقفز في أذهان تلاميذه فيقول في أحد أحكامه رفعًا لشأن العلم "إذا كانت الصفات والقدرات الخاصة هي التي تؤهل المرشح لممارسة العمل القضائي، إلا أنه يجب ألا يتم إغفال الكفاءة العلمية التي تنهض بمرفق القضاء، وتعينه على تحقيق العدالة المنشودة". وها أنا أستاذي الراحل اُقدم لروحك الطاهرة شهادة وفاء من تلميذ يعرف قدرك العظيم، فأنت لست ظاهرة طارئة في المجتمع القضائي وتختفي، لكنك ظاهرة راسخة نذكرها ونحتفي، فقد تعلمنا منك العلم والأدب والأخلاق، تعلمنا منك أن الرئيس القوي هو الذي يقوى بمرؤسيه الأقوياء من ذوي العلم والموهبة، وأن الرئيس الضعيف هو الذي يضعف بمرؤسيه الضعفاء، الذين يقعون على شاكلتين: الأولى صنف يفكر دون تنفيذ، وصنف ينفذ دون تفكير، تعلمنا من مدرستك أن الأستاذ العالم هو من يستجمع معه أهل العلم والفقه والبأس؛ ليرتقي بهم بعيدًا عن مدبري الحرائق والدسائس من سمات العالم الثالث. تعلمنا منك أن من لم يترك له تلاميذ وأحفادًا، لا يمكن أن يكون أستاذًا في يوم ما، وسيكون بعد وقت قصير من الزمن نسيًا منسيًا، وأن من يعلم الأجيال من تلاميذ ذوي القدرات سيضحى بهم في سجل التاريخ قولًا مليًا، تعلمنا منك أنه في ظل العواصف قد لا تستطيع التحكم في توجيه الرياح، لكنك تستطيع – وبإتقان - التحكم في شراعك ليظل متزنًا يسير بك وسط الرياح. وأقول لروحك الطاهرة التي أثرت أرواحنا وخالطت أنفاسنا وأسعدت قلوبنا، وقد فارقتنا دون وداع، مستودعة فينا كل فكر وعلم "يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي" صدق الله العلي العظيم. أقول لروحك المطمئنة، إن الذين ولدوا وتربوا في أحضان العواصف لا يخافون من هبوب الرياح، وإن قمة الثقة أن تصمت عندما لا يُقدِّر الآخرون مواهبك وقدراتك وإبداعاتك، فأنت تعلم من أنت ومن هم، رحم الله أستاذنا "عبدالباري شكري" وأسكنه فسيح جناته، فأحسن الكلام ما صدق فيه قائله، وانتفع به قارئه، وسعد به سامعه. كاتب المقال: نائب رئيس مجلس الدولة