التطور التكنولوجي الذي يستحدث من آن لآخر آلية عمله ومواكبته متطلبات الجماهير، رغم ماله من مزايا، إلا أنه سرعان ما يلحق بالضرر بعدد من الصناعات التقليدية، لاسيما الحرفية منها أو اليدوية، فيفقدها، بمرور الوقت، رونقها وبريقها الذي اعتاد كثير من المقبلين على هذه الصناعات أن ينتقوا مقتنياتهم التي صنعت بأيادي الحرفيين. من بين هذه المهن، تأتي مهنة "النحاسين" التي تعاني ويلات هذا التطور، بالإضافة إلى عدد من الظروف الخارجية كتأثر السياحة بعد الثورة وارتفاع الأسعار والإقبال على المنتجات الواردة من الخارج، لاسيما الصينية منها بأسعار زهيدة، كلها كانت عوامل أسهمت في تضاؤل الإقبال عليها، ما يعرضها للانهيار التدريجي وإضافتها لغيرها من المهن اليدوية التي في طريقها للانقراض. ويضم شارع المعز لدين الله الفاطمي -الأشهر بين شوارع القاهرة- بين جناحيه "درب النحاسين"، فبينما تقترب من الشارع الشهير حتى تسمع أصوات الطًرق على النحاس والأواني في سيمفونية عجيبة تكون بمثابة الإشارة إلى أنه يوجد هنا نحاسين. وبالرغم من كون شارع المعز مزار سياحي شهير يحتوي على أشهر الآثار الإسلامية إلا أنه في الوقت ذاته يعد سوقًا رائجة لعدد من منتجات المهن اليدوية التي يتردد عليها سائحين من مختلف الجنسيات من هواة شراء هذه المنتجات التي في الغالب ما تكون منتجات منزلية. ما يثير الخشية تجاه مستقبل هذه المهنة، أن من يمتهنوها باتوا من ذوات الشعر الأبيض، في الوقت الذي يعزف فيه عدد لافت من الشباب من الإقتراب من العمل فيها، لأنها لم تصبح تجارة رابحة لديهم، ما يعني أننا أمام واقع يشير مقبل الأيام إلي التخلي التريجي عن امتهانها في ظل الظروف المحيطة بتلك المهنة والتي تمثل تحديًا واضحًا وعائقًا لافتًا أمام استمرارها. "بوابة الأهرام" كان لها جولة في المناطق التي تضم عددًا من النحاسين في القاهرة، بينها ما تعرف ب"ربع السلحدار" الذي يعد أقدم سوق للنحاس بحي "خان الخليلي"، حاولت خلالها تسليط الضوء على هذه المهنة والغوص في مشاكل أصحابها ومعرفة التحديات التي تحيط بها من كل جانب، لمحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه مقبلًا وتفادي أية عوائق من شأنها غل يد العاملين في تلك المهن والاستمرار فيها، ليس محاولة للحفاظ عليها لأهميتها الاقتصادية فحسب وإنما التراثية أيضًا، فتلك المهن تؤصل للهوية المصرية. "ربع السلحدار" يضم مصنعًا للنحاس أسس قبل 92 عامًا، التقينا خلاله نحاسي عتيق يعمل بتلك المهنة مذ ما يقرب من نصف قرن، يدعى الحاج حسين الصغير "62 عامًا"، الذي يرى أن تلك المهنة ليست وسيلة لكسب الرزق لديه فحسب، إنما حياة، إذا انفصل عنها فكأنما انفصل عن الحياة عامة، فهو يعمل فيها وهو في سن صغيرة وتربى ونشأ وترعرع عليها. "الصغير" وهو يتحدث عن الصناعات اليدوية تبدو علامات الحزن على وجهه، فهي أصبحت تئن من وضعها، في وقت يرى فيه أن الدولة لم تعد تسهم في الحفاظ عليها وتقديم الدعم لها كما كان سابقًا، مطالبًا بضرورة أن تعيد الحكومة الحياة مرة أخرى لهذه المهن التي أصبحت تعاني ويلات الانقراض. صناعة النحاس لم تكن وليدة العصور الحديثة بل إن التاريخ يتحدث عن كيفية استغلال المصريون القدماء معدن النحاس واستخدامه في صنع أنابيب لتوصيل مياه الشرب، وأخرى لصرف المياه القذرة والفضلات من المنازل، فقد عثر الآثريون على ألف وثلاثمائة قدم من الأنابيب النحاسية في معبد هرم أبي صير تعود للأسرة الخامسة، كما عثر على أنابيب مشابهة في آثار قصر كنوسوس بجزيرة كريت. ويتابع "الصغير" وهو جالس وسط الأواني النحاسية والمشغولات اليدوية، بالقول: السياحة مصدر رزقنا الرئيسي ومنتجاتنا في الغالب لا يشتريها ولا يقبل عليها مصريون كما جرت العادة إلا الهواة منهم وإنما أغلب الزبائن من السائحين العرب والأجانب، مشيرًا إلى أن تدهور السياحة في الفترة الأخيرة تسبب في انخفاض شبه كلي في حركة البيع والشراء. "الطلب الآن أصبح على مصانع الليزر وليس الشغل اليدوي، وذلك لأن عاملي السعر والوقت أصبحا لصالح مصانع الليزر، ما أدى إلى تراجع الطلب على المشغولات اليدوية، كما أن الأجيال القديمة التي كانت تكترث لهذه المهن أغلبهم وافتهم المنية ولا يوجد الكثير ممن يجيدها الآن، والأعداد الباقية محدودة من محترفين فن النحت على النحاس" بحسب "الصغير". برز استخدام النحاس وطرق استخلاصه إبان نهضة الحضارة الإسلامية، لاسيما العصر الفاطمي، حيث استخدم النحاس في صناعة العملات وأواني الطعام وأوعية السوائل وأدوات الزينة، بعدها ظهرت طبقة أصحاب المناجم وصهر الخامات والنحاسين. "عصام صلاح" صاحب أحد مصانع النقش اليدوي وتطعيم المعادن، قال إن أسعار الخامات باتت كغيرها من أسعار السلع والمنتجات في ارتفاع دائم على عكس ماكان في السابق، فانخفاض الأسعار كان يساعدنا كثيرًا في إضفاء مكونات تثري العمل اليدوي قائلًا: "لدرجة أن كنا بنطعم الشغل فضة وذهب، ولكن سعر النحاس ارتفع الآن بنسبة تصل ل 200 % ". وأوضح "صلاح"، أن 80% من العمال هجروا المهنة بسبب قلة بيع المنتجات للمستهلكين، معلقًا "البائعون يشتروا البضائع الآن من الصين لرخص سعرها، مشيرًا إلى أنه قبل ثورة 25 يناير، كان يتم توزع البضائع على محافظات مصر، ولكن السياحة بعد الثورة تدهورت، مما أدى إلى تدهور المهنة". وتتمتع عدة أماكن في مصر بغناها من خامات النحاس مختلطة بخامات الزنك والرصاص، في مناطق متنوعة يأتي أهمها جنوب الصحراء الشرقية ومحافظتي البحر الأحمروجنوبسيناء وأهم هذة المناطق هى منطقة أم سميوكى، ومنطقة أبو سويل، ومنطقة جابروعكارم، منطقة السمرا والرقيطة ونصب وام زريق وسرابيد الخادم. "ممكن دلوقتي نقعد ما نبعش أسبوع كامل" مأساة يعاني منها النحاسين في بيع منتجاتهم عبر عنها "صلاح"، الذي طالب الدولة بضرورة مساعدتهم في تسويق منتجاتهم حتى لا تنقرض بمرور الوقت. سيمفونية "النحاسين" في مصر تنقرض | فيديو