درج المواطن المصري لا سيما في الأوساط الريفية والشعبية، أن يسمي الشرطة بال"حكومة" فهي التى يراها الذراع الفعلية للدولة ورغم أن كل الهيئات الرسمية التابعة للدولة "حكومة " إلا أن تخصيص الشرطة باسم الحكومة هو الغالب، ولذا قامت الثورة لتغيير النظام ومن ثم تغيير الحكومة. فكان لابد من التعامل مع الشرطة على أنها الحكومة التى يجب أن تسقط. ومنذ إنشاء كيان خاص في مصر يسمى بوزارة الداخلية وعلى مدى تاريخ هذا الكيان لم تتعرض وزارة الداخلية المصرية لأزمة مثل الأزمة التى تمر بها عقب ثورة 25 يناير 2011. ولعل هذا التاريخ الذي قدر له أن يكون علامة فاصلة في تاريخ مصر المعاصر، له دلالته الكبرى (عيد الشرطة) على أزمة الوزارة التى بدت متعثرة منذ عصر يوم 25 يناير وكان أن جاء يوم 28 من الشهر نفسه ليتقوض البنيان في جمعة الغضب. وظلت مصر في طولها وعرضها، بلا وجود حقيقي وعملي لوزارة الداخلية ولم يتمكن اللواء محمود وجدي الذي استلم المسئولية يوم 31 يناير أن يفعل شيئا ملموسا أو ذا بال حتى اضطرته الأحداث المتلاحقة على التخلي عن المسئولية يوم 6 مارس ليخلفه اللواء منصور عيسوي. وكان حتما على الوزير الذي يقبل بكرسي الوزارة أن يواجه الأزمة المزدوجة ما بين شرخ عملاق في ثقة الموطن المصري في الشرطة، وشرخ آخر لا يقل خطورة عنه في ثقة رجل الشرطة في نفسه بعد أن تم استهداف أقسام ومراكز الشرطة في أنحاء متفرقة من مصر والهجوم عليها من بعض الأهالي لإخراج ذويهم منها أو فتح أبواب السجون لإغراق البلد في حالة من الفوضى العارمة وإحراق مئات السيارات. وكانت النتيجة الطبيعية التى لم يستطع اللواء وجدي التصدي لها، هي اختفاء أى مظهر من مظاهر التواجد الأمنى الملموس في الشارع المصري وبدت الشرطة في موقف من يدفع حساب فاتورة الفساد (على الأقل عهد الرئيس السابق محمد حسنى مبارك) فانتهى بالفشل الذريع والاستسلام لرحى الأزمة لتدس محاولته بشقيها الحجرين. وجاء اللواء منصور عيسوي ليألو على نفسه إعادة الانتشار الشرطي والقضاء على الانفلات الأمني تحت ضغوط هائلة من كل الجهات في تلك المرحلة العصيبة التى تمربها مصر. لكن لم يغفر الكثيرون للشرطة أنها مظهر العهد السابق الرئيسي وكذا عهود أخرى، وتم الخلط مابين إعادة الوجود الأمنى والانتشار مجددا و بين مظهر الشرطي الموسوم بالظلم. وكانت أولى الضربات الموجعة لعيسوي، أن تعرضت وزارة الداخلية في مبناها بشارع الشيخ ريحان لأول محاولة للاقتحام في تاريخها في مساء يوم 28 يونيو 2011 من جانب بعض أهالي شهداء الثورة، فيما عرف بأحداث مسرح البالون، حيث اعترضت بعض أسر الشهداء على تجاهلها في حفل لتكريم أسر أخرى وتم اقتحام المسرح في حي العجوزة بمحافظة الجيزة وتطورت الأحداث بصورة غامضة لتنتهى أمام مقر الوزارة في محافظة القاهرة. ولم تكف محاولات اقتحام الوزارة منذ هذه الواقعة، إلى درجة أن ألتراس بعض الفرق الرياضية، قام بتحطيم شعار الوزارة على جدرانها والإتيان بحركات خادشة للحياء والتبول على أسوارها، في إهانة عمدية للوزارة وما تعنيه واحتج أعضاء الألتراس بأزمة سابقة وقعت في استاد القاهرة بين جمهور الأهلى وقوات الشرطة، أدت لحدوث إصابات واحتراق عدد من سيارات الشرطة. وجاءت محاولة أخرى من جانب أعداد غفيرة من أمناء الشرطة الذين اعتصموا أمام الوزارة في صبيحة يوم 24 أكتوبر وكانت ضربة قاصمة لأنها أتت من جانب بعض من ينتمون إلى فئة من الشرطة نفسها، حيث ردد الأمناء المعتصمون هتافات تحما إهانة للوزير وكتبوا على جدران الوزارة كلمات مسيئة وحطموا شعار وزارتهم على بابها الرئيسي ولم يكن ذلك أول احتجاج منهم أمام الوزارة في عهد عيسوي القصير ولكنه أكثرها إيلاما. في الوقت نفسه كان المشهد السياسي العام مضطربا وعلى أشده، واتهامات متلاحقة تنهال على عصام شرف رئيس الوزراء السابق الذي جاء من قلب ميدان التحرير، وكذا منصور عيسوي وزير داخليته بأنهما "ضعيفان" وتحيلهما المسئولية كاملة على ضياع هيبة الدولة. في الوقت نفسه، كانت اتهامات متناقضة تنهال على عيسوي بالعودة إلى أساليب " العادلي والنظام القديم" إذا ما استعمل القوة في فض التجمعات التى تهدد الوزارة أو مبنى مديرية أمن الجيزة والسفارة الإسرائيلية بعد ما عرف بجمعة 9سبتمبر، حيث اتهم عيسوي باستخدام القوة المفرطة في التصدي للمتظاهرين في الوقت الذي تنفي فيه التيارات والحركات الساسية المهيمنة على الثورة صلتها بأحداث الاقتحام وتتهم بلطجية و"مندسين". وجاءت الضربة القاصمة في أحداث 19 نوفمبر وما تلاه من أحداث فيما عرف بأحداث شارع محمد محمود والتى تم استهداف مبنى الوزارة في معارك ضارية بزاجاجات المولوتوف والطوب من جانب متظاهرين في الشارع الرئيسي والشوارع الجانبية وبميدان الفلكي وبين قوات الشرطة التى تحمى مبنى الوزارة الذي يشكل اقتحامه دلالة خطيرة ومباشرة لسقوط الشرطة بإسقاط بيتها الكبير وبالتالي سقوط الحكومة التى هى في نظر الكثيرين ليس سوى الشرطة فقط. ولكن لا اختيارأمام الوزير الجديد الذي يقبل المنصب بعد استقالة عيسوى (الذي أعلن مرارا أن الشرطة مستهدفة لذاتها في أكثر من حديث لقناة فضائية)، إلا أن يواجه كل هذا الحمل الثقيل، فلم يكن لشخص قضى في وزارة الداخلية يوما واحدا على مدى 12 عاما وشهرين واثني عشر يوما -هو عمر العادلى في الوزارة- أن ينفى اتصالا ما مع اللواء حبيب العادلي وزير الداخلية الأسبق بوصفه المسئول الأول ورئيسه المباشر أو غير المباشر وعليه أن يتحمل اتهامات مجهزة بأنه من رجاله. وظروف انتقال كرسي الوزارة والدخول إلى مبنى وزارة الداخلية الحالية لم تشهدها البلاد في تاريخها، فقبل الثورة كان انتقال الوزارة من وزير إلى آخر يتم في ظروف وإن كانت كثيرا ما توصف بالسيئة، إلا أنها أقل حدة رغم حساسية كل ظرف على حدة. ولكن كان هناك ظروف عصيبة أخرى. فقد سبق أن اغتيل محمود فهمي النقراشي رئيس الوزراء، وفي الوقت نفسه وزير الداخلية، يوم 28- 12- 1948 على يد ناشط سياسي يدعى عبد المجيد حسن، أمام مصعد مبنى الوزارة، لكن قتله لم يكن بسبب منصبه كوزير للداخلية ولكن لموقف سياسي متعلق بموقف مصر الرسمي من الحرب العالمية الثانية التى تخوضها بريطانيا الدولة المحتلة لمصر. ولعل أكثر الانتقالات، كانت مع انتقال كرسي وزارة الداخلية (أو بالأحرى انتقال الوزير إلى الكرسي) جاءت رغم انتهاء العهد الملكي، بعد إعلان الجمهورية في 1953 ليشغل البكباشي جمال عبد الناصر قائد ثورة يوليو، منصب الوزير لمدة أقل من 4 شهور، فقد ظل كرسي الوزارة آمنا مطمئنا طوال العهد الناصري وحتى مع انتقال الكرسي في أحداث مايو 71 من شعراوي جمعة إلى ممدوح سالم لم يكن الوضع بالخطورة الراهنة. وأول نقلة خطيرة، كانت مصر أيامها على شفى الفوضى بعد أحداث 17 و18 يناير 1977، حيث استلم اللواء محمد النبوي إسماعيل حقيبة وزارة الداخلية من ممدوح سالم رئيس الوزراء الذي كان قد ضم إليه المنصب بعد فشل وزير الداخلية في حكومته، السيد فهمي في مجابهة الأحداث وأقيل في 2 فبراير 1977. وموقف آخر أشد خطورة عندما اندلعت أحداث الأمن المركزي بشكل أكثر عنفا لتطيح باللواء أحمد رشدي ( أكثر وزراء الداخلية شعبية وقربا للجماهير) في فبراير 1986 وتأتى الأحداث على إثر ذلك باللواء ذكي بدر الذي ظل في الوزارة وتمت إقالته في يوم 12 -1-90، بعد نشر خطبة مسجلة له في جريدة ( الشعب) تطاول فيها على رئيس الوزراء عاطف صدقي وبعض زملائه من الوزراء واستخدم ألفاظا نابية على سبيل السخرية "كعادته" ليسلم المسئولية إلى اللواء محمد عبد الحليم موسى. ويصدرقرار بإقالة موسى بسبب أطروحاته في محاولة لوقف نزيف الدم، للوصول إلى صلح مع الجماعات الإسلامية التى كانت تخوض معركة شرسة مع الشرطة وقع فيها عشرات الضحايا من الجانبين. وعقب إقالة موسى بيوم واحد حلف اللواء حسن الألفي اليمين، كوزير للداخلية يوم 18 أبريل 1993 ليكمل الصراع الدموي مع الجماعات الإسلامية المسلحة ويتصاعد الصراع إلى محاولة لاغتياله عند مرور موكبه بشارع محمد محمود في طريقه إلى مكتبه بعد تمام أربعة شهور من توليه منصب الوزير ويتركه في 18 نوفمبر 1997 بعد يوم أسود في حياة الوزارة على إثر حادث مذبحة الأقصر الشهيرة. ويأتى هذا اليوم الأسود، باللواء حبيب العادلي وزيرا، حيث كان يتولى مسئولية جهاز أمن الدولة في وزارة الألفي، لينتهى بسقوط نظام كان قد شغل فيه العادلي أطول فترة لمنصب وزير الداخلية ليس في عهد مبارك فقط، بل في تاريخ مصر كلها.