أن يتعمد البعض التشكيك في هيبة الدولة، فطبيعياً أن يحاول "فرد عضلاته"، ظناً منه أنه الأكثر تماسكا وتنظيما،ً وأنه الأجدر بأن يكون هو "صاحب السلطة" الحقيقية، وليست الدولة هى صاحبة هذا الحق.. وفى كل الأحوال على الجميع أن يعي جيدًا أن التشكيك فى هيبة الدولة خط أحمر لا يمكن المساس به، أوالسكوت عليه. لكن أن تكون الصورة عكس ذلك، بأن الدولة – لن تسقط هيبتها مهما أراد الخبثاء- فهنا تكمن الحقيقة بأن مريدى السلطة يحاولون القيام بأعمال ظاهرها الخدمة العامة، وباطنها استعراض العضلات. جاءت الأزمة التى وقعت أخيرا بين جماعة الإخوان المسلمين، ممثلة فى جناحها السياسى وهو "حزب الحرية والعدالة" وبين وزارة الداخلية ممثلة فى مديرية أمن القاهرة، بسبب قيام جماعة من الإخوان بتنظيم حركة المرور فى منطقة ميدان الأوبرا، وفى بعض مناطق القاهرة، لتفتح ملف الذين يريدون إثبات وجودهم بأى صورة كانت، حتى ولو على حساب الدولة نفسها. تلك الأزمة خلقت روايتين متناقضتين جملة وتفصيلاً، فحزب الحرية والعدالة أراد أن يخرج نفسه منها "كالشعرة من العجين" بإلقائه اللوم على مديرية أمن القاهرة، بأنها السبب، حيث لم تلتزم باتفاقها المبرم مع الإخوان فى هذا الشأن، فيما كان رد مديرية الأمن أن أعضاء الحزب لم يبلغوا الأجهزة الأمنية، بموعد نزولهم الشارع لتنظيم المرور وهو ما تسبب فى مشادات بينهم وبين الأهالى بميدان الأوبرا. تفسير تلك القضية سياسياً، كان على لسان الدكتور جمال سلامة رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة قناة السويس، الذى وصفها بأنها "أزمة" تستحق الوقوف أمامها، فوزارة الداخلية "مش محتاجة مساعدة من حد" ولا يصح أن يقوم أى شخص عادى بدور تطوعى يقصد به نوعا من "الزهو" وأن يعتبر نفسه بديلاً للسلطة. وتذكر سلامة ماقامت به اللجان الشعبية من أدوار بطولية خلال الأيام التى تلت الثورة، لكنها بعد ذلك تحولت إلى مايشبه "البلطجة" وفرض رأيها على الآخر، وأصبحت "رخمة ورذلة". وتخوف رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة قناة السويس من أن تتحول الخدمات الشعبية التى ينوى البعض القيام بها إلى "ميليشيات أهلية" وهنا يصعب على الدولة التصدى لها حتى لو كانت قد حصلت على موافقة أمنية مسبقة بالقيام بمثل هذه الأعمال، فمثلاً الإخوان سينظمون المرور اليوم، ثم يطالب السلفيون بأن يكونوا مسئولين عن "كذا وكذا" وتصبح الدولة ساحة لتجارب الأحزاب والقوى السياسية فى استعراض قوتها. واعتبر الدكتور جمال سلامة أن جماعة الإخوان يريدون إظهار قوتهم فى كل اتجاه، وأن يعتبروا أنفسهم متحدثين باسم الثورة من قبيل فرض الوجود والذات فى الشارع المصرى، وقال:" على جماعة الإخوان النزول لجمع القمامة من الشوارع لو فعلاً عايزين يعملوا خدمات للشعب، مش يروحوا ينظموا المرور.. وبلاش تتعمدوا الصدام مع الدولة ووزارة الداخلية تحديداً، لأن ماتفعلونه الأن نوع من تكوين أجهزة موازية للدولة". فى هذا الشأن، اعتبر أحمد ماهر المتحدث باسم حركة 6 إبريل أن مافعله الإخوان "شئ عادى جداً" خصوصا أن وزارة الداخلية نفسها دائما ماتقول عندنا أزمة فى المرور، وكان ذلك سبب تحرك الإخوان تجاه تقديم خدمات فى مجال تنظيم المرور، نافياً أن يكون تحرك الإخوان فى هذا الشأن يقل من هيبة الدولة، وبرغم ذلك قال:" المفروض الإخوان ينسقوا مع الداخلية قبل النزول للشارع". من تفسير الأزمة "سياسياً" إلى دراستها اجتماعياً وحقوقياً، حيث الدكتور عصام درويش رئيس مجلس إدارة مؤسسة المالك للتنمية الإنسانية الذى أكد أنه " لايجوز لأى مواطن أيا كان أن يبادر بخدمة عامة مالم يحصل على تصريح من الدولة بذلك، وأنه لايجوز لأى تنظيم سياسى- أياً كان- وتحت أى مسمى بالمبادرة فى المشاركة فى العمال العام، حتى لايتم توظيفها لأغراض سياسية. الإخوان يريدون أن يظهروا أنه عندما كانت الدولة ضعيفة "تفضلوا" عليها، وساندوها، وكانوا "الركن الركين، والحصن الواقى لها" وبالتالى تستفيد من ذلك سياسياً خاصة وان الانتخابات البرلمانية على الأبواب، هذا مافسره درويش بشأن خطة الإخوان تنظيم المرور بالشوارع، متسائلاً:" ليه الإخوان تحديداً هما إللى فكروا فى كده؟ وأجاب على نفسه قائلاً:" دى لعبة سياسية بحتة". فى موازاة ذلك، اختصر الدكتور عبد الله الأشعل، المرشح المحتمل لرئاسة الجمهورية، وأستاذ القانون الدولىي، بالجامعة الأمريكية، توصيفه لموقف الإخوان من النزول للشارع وتنظيم حركة المرور بالتعاون مع وزارة الداخلية-ممثلة فى مديرية أمن القاهرة- بأنه "موقف غريب جداً، ويصعب عليه تبريره". أخيراً، وليس آخيراً، واتصالاً بتفسيرات الخبراء، طفت على السطح تساؤلات مبهمة خلفتها هذه الأزمة، وكان مفادها: لماذا اختارت قوى سياسية أن تسهم فى خدمة المجتمع من بوابة جهة سيادية مثل وزارة الداخلية لتقديم هذه الخدمة؟ وأيهما أفضل للمواطن المصرى.. أن يتم تقديم الخدمة بتنظيم المرور أم بجمع القمامة من الشوارع والميادين بعد أن عجزت الأحياء بالفعل عن رفعها من الشوارع؟ وإذا تم تنظيم المرور -فعلاً- من جانب الإخوان فهل سيقف الليبراليون والسلفيون والوفديون مكتوفى الأيدى؟ أم سيطالبون بأن يكون لهم "كعكة" فى توزيع الخدمات؟.