قبل الثورة بسنتين كنت ضيفا على الكتلة البرلمانية لجماعة الإخوان فى مدينة الإسكندرية لألقى محاضرة عن الأوضاع السياسية السائدة آنذاك، وحين شكا لى الحاضرون من التضييق والإكراه والتشويه الذى يتعرضون له، قلت لهم: لدى اقتراح يمكن أن يمثل خير رد على كل هذا، فسألوا: ما هو؟ فأجبت: فى طريقى إلى هنا شق القطار طريقه بين أكوام من القمامة على الجانبين، وفى كل أحيائنا وشوارعنا تنبعث الروائح الكريهة منها، وتقتحم تلالها المتلاحقة أعيننا، فلو أنكم ك«تنظيم» متماسك قررتم أن تساعدوا فى التخلص منها، فلا شك أن هذا سيحسن صورتكم، ويبين مدى تعاونكم مع الناس وحدبكم عليهم، وهذه إحدى وسائل «المقاومة المدنية» لنظام مبارك الفاسد المستبد. وابتسم القيادى الإخوانى المهندس على عبدالفتاح الذى كان يجلس بجانبى وقال: والله اشترينا عربة نقل قمامة وبدأنا فى جمعها بأحد أحياء الإسكندرية، لكن أمن الدولة منعنا، وصادر العربة، وقبض على المتطوعين. فقلت له: هذا خير دليل على أن السلطة تدرك أن فعلا كهذا سيجعلكم تكبرون فى عيون الناس، وأتصور أنهم فهموا الدرس جيدا من أيام الزلزال الذى ضرب مصر فى أكتوبر عام 1992 حين كان الإخوان أسرع إلى نجدة المتضررين من سلطات الدولة. قامت الثورة، وتحرر الإخوان وحازوا أغلبية نسبية فى البرلمان، لكن القمامة كثرت وتراكمت فى الشوارع مع استمرار غياب نفوذ الدولة وخدماتها أو تغييبها عمدا. وفى ركاب هذا ارتبك المرور شهورا لاختفاء الشرطة، وسألت نفسى: أين الإخوان؟ ولا يقول قائل: لماذا هم بالذات؟ لأن الإجابة بسيطة وهى: أنهم الأكثر تنظيما وتمكينا بشريا وماديا من بين كل قوى المجتمع المدنى، علاوة على أنهم هم الذين يقولون فى كل مكان وأوان إنهم «يحملون الخير لمصر». وأعدت طرح السؤال على نفسى وسيارتى تمشى ببطء فى شارع الكورنيش بينما تتوالى «السلسلة البشرية» التى تحمل صور الدكتور محمد مرسى، وتدعو المارة إلى التصويت له، والتى قيل إنها امتدت من الإسكندرية حتى أسوان، فى استعراض للقوة، أو فى خلق أكبر مشهد من لحم ودم لجذب الناخبين واصطيادهم. فهل يضن الإخوان علينا بإمكاناتهم ولا نراها إلا أيام الانتخابات؟ أم أنهم كانوا غير قادرين على استخدامها فى إفادة الناس قبل الثورة إلا فى الخفاء؟ وماذا الآن بعد أن تحرروا وتقدموا؟ ألا يمكن أن نراهم مشمرين سواعدهم، وشاحذين عقولهم، ورافعين راياتهم فى ساحات غير الانتخابات، وفى مناسبات واتجاهات غير تلك التى تجنى فيها المكاسب الذاتية؟ وقلت رغم كل هذا: أنتظر اليوم الذى يتم فيه إشهار «جمعية الإخوان المسلمين» فما أحوجنا إليها فى العمل الخيرى، علاوة على كل ما يؤدى إلى سمو الإخلاق وامتلاء الأرواح، وهو ما تأثر بانجذابها نحو السلطة، وتحولها إلى فرق انتخابية، بينما القمامة تكاد تغطى الهامات فى الشوارع، والأخلاق تتردى، والأرواح يقتلها الظمأ.