طالبنا في أكثر من مقالة بضرورة أن يكون لمصر نموذجها الخاص في التنمية. وقلنا أن الأمم الرشيدة هي التي تقلل تكلفة الانتقال وتستخلص لنفسها هذا النموذج, لذا من الضروري أن تتكاتف القوي الوطنية والعقول الاقتصادية وقيادات الأعمال لوضع برنامج عمل اقتصادي لمصر. فليس من المنطق وغير المقبول أن نطالب الحكومة بكل شيء وأن ينصرف الشعب عن العمل ويطالب البعض منه بأن يصله دخله دون عمل أو إنتاج. والنهج الذي سرنا عليه في التنمية خلال العقود الماضية ليس وليد قناعات فكرية واستجابة لضرورات اقتصادية واجتماعية تلبي احتياجاتنا, بل نهج فرض علينا من الخارج والاستمرار عليه سيؤدي إلي إعادة إنتاج وصياغة علاقات التبعية لمرحلة جديدة أسوء مما كنا عليه. وكثير من المفكرين الاقتصاديين حذروا الدول النامية من السير علي النهج الذي يتم صنعه في الغرب حيث لاحظ أن معظم الكتابات التي عالجت مشاكل التنمية- وهي تصدر في الدول الصناعية المتقدمة- لم تكن تهتم بمعالجة مصالح الدول المتخلفة, بل تعرض هذه المشكلات بقصد أو بدون قصد, من وجهة نظر المصالح الأساسية لإحدي الدول المتقدمة أو مجموعة منها. لقد اخترنا نماذج فاشلة للتصنيع, فتحت تأثير اللحاق بمستويات المعيشة للدول الغربية والانبهار بهذه المستويات باعتبارها هدفا للتنمية, أخترنا نماذج معينة لا تتناسب مع مواردنا ولا مع مستوي معيشتنا, هذه النماذج قامت علي إعتبارات الطلب الفعال وقوي السوق, ولهذا أدت إلي تشويه نمط الإنتاج والاستهلاك لصالح أصحاب الدخول العالية فالتصنيع بدأ من النهاية بمعني أن منتجاته المصنعة وأغلبها من السلع الاستهلاكية المعمرة كانت تتناسب مع مراحل أكثر تقدما من واقع الحال داخل الاقتصاد القومي. ومن هنا كانت حتمية ارتباط الإنتاج بما يتدفق إليه من الخارج من تكنولوجيا وقطع غيار مستوردة بل وصل في نهاية الأمر إلي عمالة فنية مستوردة, وبالتالي لم يسهم في زيادة فرص التوظف إسهاما كبيرا, حيث كانت فنونه الإنتاجية المستخدمة كانت مكثفة لعنصر رأس المال. وفي الحالات التي تخصص فيها قطاعنا الصناعي كان من أجل التصدير, ومن ثم أصبح الإنتاج يتحدد نوعه وحجمه ومعدلات نموه طبقا لاتجاهات الطلب الخارجي, فهو لا ينتج للوفاء بحاجة السوق المحلي وإنما بهدف إمداد الصناعات بالدول المتقدمة بالمواد الخام اللازمة لدورانها, كما أن الفائض الاقتصادي الذي يتحقق فيه لا يبقي داخل الدولة وإنما يعاد إنسيابه إلي الدولة الأم. أفرز هذا النظام نخبة من السياسيين ورجال الأعمال أمسكوا بمقاليد الأمور. وتركيز النمو علي قطاع معين أدي إلي أن تستأثر قلة من الأفراد بثمار التنمية.أما السلع التي يستهلكها معظم السكان, فلم تجد العناية ولا رؤوس الأموال المطلوبة التي تلزم لدفع عجلات النمو فيها, وهذ ما يفسر لنا تفاقم مشكلة الغذاء وانخفاض درجة إشباع الحاجات الأساسية في مجتمعنا. لقد استطاعت القوي الغربية طوال أكثر من نصف قرن من خلق مسالك للاتصال المباشر مع القوي الفكرية والقيادية في المجتمعات المحلية, وتدعيم مفهوم التعاون والحوار الذي يضع حدا للعداوة التقليدية ويخلق طبقة منتفعين. ملايين الجنيهات انفقت من جانب الامريكان والاسرائيليين علي الأبحاث الميدانية والبحوث المشتركة مع بعض الاساتذة والوزارات ولعل تقارير التنمية مثال واضح علي هذا العبث الأمني. كذلك التركيز علي تخريب كل مرافق الدولة لبث روح اليأس في أن الدولة غير قادرة علي إدارة شئون البلاد مما يؤدي إلي الشعور بفقد الهيبة والشعور بعدم فاعلية الإدارة المركزية مع الإكثار من حالات الفساد والذي يضعف من حالة الولاء للسلطة المركزية. ما تريده اسرائيل ولن تكل عن تحقيقه هو تقسيم الدول إلي دويلات صغيرة محدودة القوة والفاعلية حتي تتساوي مع اسرائيل ديموجرافيا- ومهما فعلت فإن تجمع اليهود في دولة اسرائيل لن يتجاوز ال20 مليونا, وحتي أصغر دولة سيزيد تعدادها ضعف الزيادة الاسرائيلية- فهي تلهي الدول العربية بصراعات محلية وفتنة طائفية علي أن تصير هي الدولة القوية باقتصادها وتقدمها التكنولوجي فهي نموذج من نماذج الاستعمار الذي يخلق التبعية الاقتصادية, علي الجانب الآخر انشغلنا جميع بجميع التفاهات وإنشاء الفضائيات وربط اقتصادنا برجال المافيا الذين لا يعرفون ألف باء الاقتصاد وتدمير كل ما نملكه من صناعات متقدمة تحقيقا لرغبة الآخرين وتوهم تحقيق السلام, السلام لا يبني إلا علي توازن القوي وليس الرغبات والآمال. إن حصاد التعامل مع الغرب في المجال الاقتصادي لا يتعدي رقم الصفر منذ كان الرهان علي كارت الولاياتالمتحدة عقب حرب أكتوبر1973 حيث زاد الفقر وزادت البطالة ودمرت عشرات المصانع بحجج واهية لا يقبلها العقل والمنطق وتوجيه عقول شبابنا إلي سلوكيات بعيدة كل البعد عن قيمنا وحضارتنا. اليوم تقود عدة عوامل النظام الديمقراطي وسيطرة البرجوازية الاقتصادية إلي نهايتهما, فمن جهة يلعب انتشار شبكات الاتصال الراهنة لصالح جماعات المصالح أو ما يسمي المجتمع المدني, وهذه الجماعات في واقع الأمر تلعب دورا يفقد الديمقراطية معناها الشائع بصفتها حكم الأغلبية. فبفضل القوة والتنظيم الذي تستطيع جماعة صغيرة منظمة أن تمتلكهما عبر وسائل الاتصال وتكنولوجيا المعلومات الحديثة, يمكنها أن تدفع بمصالحها إلي الأمام وتجبر السياسيين علي تبني وجهات نظرهم وتقديمها للبرلمانات بغض النظر عن مواقف قطاعات اجتماعية أخري, مما يجعل الحكم حكم أقليات وجماعات مصالح لا حكم أغلبية. ولعل الإعلام الجماهيري الرأسمالي يسهم في إضعاف النظام الديمقراطي, فالسياسة والسياسيون يوشكون علي التحول إلي نوع من التسلية, فأخبارهم الشخصية وفضائحهم باتت مادة الإعلام المثيرة التي تشبع نهم القارئ لا تفاصيل القوانين والتشريعات, وهذا أعطي جماعات المصالح لا سيما إن تعاملت مع الإعلام علي نحو معين الفرصة لبلورة مشاريعها الخاصة التي تلبي مصالحها وتمريرها عبر السياسي الذي أصبح يقيس كل تصرفاته بصداها الإعلامي المتوقع. وإذا كانت الديمقراطية تقوم في جوهرها علي تباين الآراء والدخول في عملية حوار للوصول إلي رأي من تلك الآراء, فإن الإنترنت أصبح يسمح بإعادة التجمع بين أصحاب الرأي الواحد داخل الدولة وخارجها وتسيير أمورهم بأنفسهم دون الحاجة للالتقاء بأصحاب الرأي الآخر, وهذا يتبعه تساقط العديد من أساطير الدولة القومية من مثل احترام شرعية الدولة والقيادة والموت لأجلها ولأجل سيادتها, كما حلت شبكات اتصالية محل الروابط القائمة علي النسب والعائلة والألقاب. اليوم علينا أن نتجه شرقا نحو الصين لندرس التجربة الصينية التي ألحقت بالنظام الرأسمالي الغربي أكبر هزيمة ففككت الكثير من اطروحاته. أن خروج الصين من الفقر المدقع والطغيان الوحشي في بحر جيل واحد لهو عمل بطولي فذ, والصين تستحق التحية علي هذا الإنجاز. إلا أن قصة نجاح الصين تشكل أيضا التحدي الأكثر خطورة الذي تواجهه الديمقراطية الليبرالية منذ ظهور الفاشية في ثلاثينيات القرن العشرين. فلا أحد يستطيع أن ينكر أن الانتصارات التي سجلتها الصين علي الصعيدين السياسي والاقتصادي, بصرف النظر عن العواقب البيئية المترتبة علي هذه الانتصارات, تجعل النموذج الصيني يبدو وكأنه بديل جذاب لرأسمالية الديمقراطية الليبرالية. ونستطيع أن نقول بقدر أكبر من الدقة إن الأموال الصينية أصبحت في كل مكان, ويرجع الفضل في ذلك بشكل خاص إلي بنك التنمية الصيني وبنك التصدير والاستيراد الصيني. وباعتبار المؤسستين مسئولتين عن كل التمويل الصيني في الخارج فإنهما تحدثان موجات في مختلف أنحاء العالم. وبنهاية عام2010 كانت تعاملات بنك التنمية الصيني قد امتدت إلي أكثر من تسعين دولة بأموال بلغت نحو141.3 مليار دولار. وتؤكد التقارير أن الحكومات المتلقية للمساعدات راضية عن نهج المساعدات الذي تتبناه الصين. فهناك غياب ملحوظ للتكاليف الباهظة التي يفرضها المستشارون في إطار ما يطلق عليه حزم' المساعدات الفنية', وهي الممارسة التي كانت محورا رئيسيا للانتقاد الموجه إلي العديد من وكالات التمويل. والأمر الثاني أن المساعدات الصينية لا تتطلب' بعثات' تمهيدية قبل المشاريع من قبل بيروقراطيين يصلون من مقار نائية لممارسة نوع من السياحة التنموية التي تعيث فسادا في الإجراءات الروتينية لنظرائهم المحليين الذين يضطرون إلي مصاحبتهم في رحلاتهم لتفقد الفقر.والصينيون لا يعظونهم ولا يلقون عليهم المحاضرات بشأن الديمقراطية والأمر الثالث أن المساعدات الصينية يتم توزيعها بسرعة وبلا احتفالات ومراسم رسمية, الأمر الذي يجنبها الضجة المرهقة الناجمة عن المفاوضات المطولة والمستندات المتضخمة للمشاريع, وهي الممارسة التي يطلق عليها العديد من الدارسين والممارسين مصطلح' دبلوماسية دفتر الشيكات'. ولكن ما مدي أهمية الديمقراطية بالنسبة للنجاح الاقتصادي؟ يؤكد الدليل العملي التجريبي أنها لا تشكل أهمية كبيرة. قد يبدو هذا مدهشا, فالدول التي تتحول إلي الديمقراطية لا تحقق عادة نموا اقتصاديا أسرع بعد تحولها سياسيا; فالديمقراطية لا تبدو علي قدر كبير من الأهمية فيما يتصل بتأمين النجاح الاقتصادي. ففي فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية كانت الحالات الأكثر نجاحا علي مستوي التحول الديمقراطي تأتي في أعقاب إصلاحات اقتصادية شاملة. وفي المقابل, فحين بذلت المحاولات نحو التحول إلي الديمقراطية في بيئة اقتصادية هشة ومغلقة كانت النتائج أسوأ إلي حد كبير, هكذا أصبح العالم الغربي ديمقراطيا في القرنين التاسع عشر والعشرين. حيث أتي التحرير الاقتصادي أولا, ثم التحرير السياسي لاحقا* [email protected]