رغم أن هذا أمر كان بعيد الاحتمال حتى شهور قليلة مضت، فقد أصبح الآن على دول العالم التعايش مع فكرة أو احتمال فوز ملياردير العقارات الشعبوى دونالد ترامب بانتخابات الرئاسة الامريكية المقررة فى نوفمبر المقبل بكل ما يعنيه ذلك للجميع .. ولنا. واذا سارت الامور وفق ما هو متوقع فإن منافسته فى الانتخابات المقبلة ستكون هيلارى كلينتون وزيرة الخارجية السابقة والمرشحة الاوفر حظا لنيل ثقة الحزب الديموقراطى .. وربما ثقة الامريكيين. ترامب الذى كان مفاجأة الانتخابات التمهيدية لا يعبر تماما عن مكونات الحزب الجمهورى، فهو ليس مرشح المحافظين الجدد، ولا حتى وول ستريت، وليس كذلك مرشح الجمهوريين الاكثر اعتدالا الذين كانوا يفضلون مارك روبيو الذى خسر مبكرا، وانما بنى حملته على استفزاز مشاعر الامريكيين من الطبقات الوسطى خاصة من البيض فهو يجاهر بعدائه للمسلمين والمهاجرين، ويمطر الاثرياء ورجال البنوك بسخريته اللاذعة، غير ان كل ذلك يأتى فى المقام الثانى بالنسبة لاهتمامات بقية دول العالم التى تعتبر وبحق أن أى تغيير فى البيت الابيض يمس مصالحها سلبا او ايجابا، فأمريكا اكبر قوة سياسية فى العالم والاقتصاد الاكبر على الاطلاق لسنوات قادمة على الاقل. واذا كان الملياردير المصنف »يمينى متطرف« قد نجح فى حصد 10 ملايين صوت فى الانتخابات التمهيدية، فقد جاءت غالبيتها نتيجة خطاب شعبوى يخاطب العواطف بعيدا عن المنطق والمألوف، فيما يمكن اعتباره تدهورا فى كل اطراف العملية الديموقراطية الامريكية التى تعتمد اساسا على العقل والموضوعية فى طرح البرامج والوعود الانتخابية، التى تتعرض للنقد والمراجعة من قبل المتخصصين لمساعدة الرأى العام على تفهمها قبل الإدلاء بأصواتهم .. أو هذا على الاقل ما تقوله وسائل الاعلام الامريكية المناهضة لترامب. على الصعيد الداخلى لعب ترامب على هموم المواطن العادى حيث تعهد بخلق اعداد هائلة من الوظائف تجعله «أعظم رئيس خلقه الله!» ثم هو بعد ذلك وعد بخفض الضرائب على الجميع حتى انه وعد بإعفاء نصف الاسر الامريكية من دفع أى ضرائب وهى تلك التى يقل دخلها عن 50 ألف دولار سنويا، وقرر توحيد ضرائب الدخل على جميع الشركات بنسبة متواضعة تبلغ 15 ٪ مقابل حوالى 40 ٪ حاليا للشرائح الاعلى دخلا، وان كان قد تراجع جزئيا عن هذا التعهد نهاية الاسبوع الماضى تحت ضغط المراقبين مشيرا الى انه سيسعى الى ان يدفع الاثرياء اكثر لأنهم يحبون ذلك!، وفى كل الاحوال فقد وعد كذلك بنقل معظم الضرائب ليتم تحصيلها من السلطات المحلية وتقليص دور السلطة الفيدرالية فى هذا الشأن، وهذا أيضا أمر لم نر له مثيلا فى وعود الرؤساء السابقين. ورغم انتقاده القاسى لبرنامج اوباما كير فإنه وعد بإدخال تحسينات جوهرية فى مجالات الرعاية الصحية والتعليم عن طريق تحسين كفاءة وفعالية هذه البرامج دون ان يتحدث عن التمويل. وفى سعيه لجذب تعاطف الطبقات العاملة وعد بأن يعمل بصرامة على الحد من الهجرة خاصة غير الشرعية الى الولاياتالمتحدة، وهو ما يؤدى الى توفير مزيد من الوظائف الا انه سيكلف الشركات والاسواق مزيدا من المال بسبب خروج العمالة المهاجرة من اسواق العمل، وهو امر تقدر تكلفته دوائر الحزب الجمهورى الاقتصادية بنحو 2.5 تريليون دولار سنويا. سياسات الهجرة هى بدء تماس وعود ترامب الانتخابية مع مصالح دول العالم، فلو نفذ ترامب وعوده او تهديداته بشأن ملف الهجرة فإن كثيرا من الدول خاصة فى امريكا الوسطى والجنوبية سوف تتضرر بشدة جراء حرمان رعاياها من الدخول والعمل فى الاسواق الامريكية سواء بصورة مشروعة او غير ذلك. العالم الاسلامى سوف يتضرر ايضا سياسيا واقتصاديا، فالمرشح الجمهورى يجهر بعدائه للمسلمين عامة وهذه عنصرية بغيضة وغير مسئولة وغير مسبوقة ايضا، ويمتد عداؤه حتى للامريكيين المسلمين، وبالنسبة لملف ايران النووى فقد تعهد بإعادة النظر فى الاتفاق الذى تم التوصل اليه العام الماضي، وهذا امر يمكن ان يرضى بعض الدول فى الشرق الاوسط الا انه سيثير الكثير من المشكلات مع اطراف كثيرة اخرى بينهم حلفاؤه من الاوروبيين الذين وضعوا خطط اقتصادية طويلة الامد لتوثيق العلاقات مع ايران على اساس التوصل الى اتفاق «5 +1» الشهير. غير ان المسلمين لن يكونوا بالتأكيد الاكثر تضررا من سياسات ترامب الانعزالية، وربما يصعب ترتيب الاطراف المتضررة وفق حجم الضرر لكن الصين سوف تكون بلا شك من اكثر الاطراف ضررا فيما لو نفذ ترامب أفكاره بشأن اجبار الشركات الامريكية على اعادة خطوط انتاجها بالخارج للعمل داخل الاسواق الامريكية لتوليد الوظائف بغض النظر عن أى اعتبارات اقتصادية أخرى. ترامب هدد بوضوح الشركات الامريكية التى تنتج فى الخارج اما بالعودة وإما مواجهة تعريفة جمركية مؤلمة. وفى هذا السياق انتقد ترامب اتفاقية منطقة التجارة الحرة لامريكا الشمالية المعروفة ب»النافتا» وقال انها تعد اسوأ اتفاقية تجارية فى التاريخ، كما تعهد بإلغاء جهود الرئيس الحالى اوباما لضم امريكا الى الاتفاقية المتعلقة بالشراكة عبر المحيط الهادى التى وقعتها 12 دولة ابرزها الصين فى فبراير عام 2015، وقال ان هذا الاتفاق يضر بالاقتصاد الامريكى ابلغ الضرر حيث انها تعمل لمصلحة ترويج المنتجات الصينية والآسيوية. الكل يعلم ان الصين بنت معجزتها الاقتصادية عبر الاسواق الامريكية حيث تعد الولاياتالمتحدة اكبر شريك تجارى للصين خلال العقود الثلاثة الاخيرة «بلغ حجم التجارة بين البلدين العام الماضى 550 مليار دولار بعجز امريكى وصل الى 237 مليار دولار»، وأى تراجعات فى التزام الولاياتالمتحدة بمفاهيم العولمة التجارية سوف يضر بشدة الاقتصاد الصينى فضلا عن اقتصادات اليابان والدول الاسيوية الصاعدة، وايضا دول الاتحاد الاوروبى. فيما يتعلق بالسياسة النقدية لوح ترامب بأن امريكا يمكن ألا تدفع ديونها وهى الاكبر فى العالم، ثم عاد وتراجع مبررا تراجعه بأنه لا ضرر من المضى قدما فى سياسات الاستدانة القائمة مادامت الولاياتالمتحدة هى التى تطبع الدولار؟!، وانتقد ايضا سياسة اعادة شراء السندات لتوفير السيولة مشيرا الى انه سيطلب من حاملى السندات الامريكية التنازل عن «جزء من الفوائد» وهو اجراء غير مسبوق ايضا، يذكر ان الصين تملك ما يزيد على 4 تريليونات دولار احتياطيات مودعة فى الخارج بينها نحو 3 تريليونات مودعة فى اسواق السندات الامريكية، ورغم كل هذه التجليات النقدية فإن ترامب أبدى تمسكه بسياسة الدولار القوى فى تناقض واضح فى اهداف سياسته النقدية التى يعتزم انتهاجها. وخلال حملته المبكرة وعد ترامب الناخبين الامريكيين بان يلزم الدول التى تتولى حمايتها الولاياتالمتحدة بالانفاق على الحاميات العسكرية الامريكية فى هذه الدول بما فيها اليابان والدول الخليجية وهو إلزام لم يتخل عنه حتى الان، ويبدو انه يصادف هوى لدى النخبة الامريكية بمن فيهم اعضاء بالكونجرس. اما بالنسبة لحلف الاطلنطى فقد دعا اوروبا مباشرة لتحمل «نصيب عادل» فى نفقات الحلف الباهظة. التوجه الانعزالى قديم لدى النخبة السياسية الامريكية غير ان هذا التوجه زال منذ الحرب العالمية الثانية وبعدها عندما تحملت اقدارها فى قيادة «العالم الحر» بحكم الحقائق العسكرية والاقتصاية، ومع مطلع الثمانينيات انخرط العالم بقيادة امريكية فى سياسات العولمة التجارية والاقتصادية التى تتغلغل يوما بعد يوم بفعل التطورات التقنية فى علوم الاتصال والادوات المالية الحديثة والمعقدة وقد كان للولايات المتحدة نصيب هائل فى جنى ثمار العولمة «الشركات الامريكية تستحوذ على ثلث ارباح الشركات حول العالم بقيمة 1.640 تريليون دولار ونصفها يتحقق خارج الولاياتالمتحدة» كما استفادت دول اخرى من قوانين العولمة لاسيما الصينواليابان والاقتصادات الصاعدة فى اسيا. توجهات ترامب اعقد من اعتبارها آراء فردية وانما الاقرب ان الولاياتالمتحدة باتت تعيد حساباتها فى حجم المكاسب والخسائر الناجمة عن التوغل فى مفاهيم العولمة خاصة على الصعيد الاقتصادى حيث ظهرت اراء ان الصعود الصينى ذهب بعيدا بأكثر مما قدره نيكسون وكيسنجر عند اجراء التسوية التاريخية مع الصين منتصف سبعينيات القرن الماضي، وان التطورات الاقتصادية باتت تفرض مراجعة شاملة لمجمل النتائج التى اسفرت عنها سياسات العولمة على الصعيد الانتاجى والمالى والمصرفى وقبل كل ذلك السياسى والعسكرى، وهنا وبعيدا عن موقف المرشحة الديموقراطية التى تعقد عليها الآمال داخل الولاياتالمتحدة وخارجها، فإن الافكار الامريكية المكتومة بشأن المشهد الدولى قد خرجت بالفعل للعيان، وان المرشح الجمهورى ان لم يحالفه الحظ فى الفوز بالبيت الابيض فى نوفمبر المقبل، فإن افكاره المتطرفة سوف تشكل البرنامج الانتخابى للمرشح الجمهورى فى الانتخابات التالية، كما ان بعض السياسات التى اعلن عنها ربما تتبناها القيادة الديموقراطية فى مسعى لتوفير مزيد من الوظائف وحل جزء من مشكلات التمويل التى باتت هاجسا للادارات الامريكية منذ ان انهى الرئيس الاسبق بيل كلينتون ولايته الثانية على عتبة الالفية تاركا فائضا يصل الى 50 مليار دولار فى الموازنة الامريكية.