فقدنا بين عشية وضحاها رفاهية الاستمرار في الخلاف ولو لبعض الوقت. وسيطر علينا بقوة الادراك بأن التوافق أصبح ضرورة لا غنى عنها لكي نتمكن من عبور نفق الأزمة التي أوقعنا أنفسنا فيها. وحسنا فعلت الحكومة بالدعوة إلى حوار مجتمعي حول برنامج الاصلاح الاقتصادي. وكنت قد حذرت على صفحات هذه الصحيفة منذ صيف العام قبل الماضي من خطورة تدهور الوضع الاقتصادي ودعوت إلى ضرورة قيام حوار مجتمعي يركز على القضايا الاقتصادية وعلى رأسها الهوية الاقتصادية للدولة. وقلت في سبتمبر من العام 2011 ما نصه:". . . من المدهش أن الحوار المجتمعي منذ قيام الثورة والذي ركز على قضايا سياسية حاولت أجزاء معينة من النخبة السياسية أن تحتكره قد غاب عن ساحة النظام الاقتصادي والاجتماعي إلا فيما ندر وفي حدود شعارات ضيقة ومتفرقة مثل الحد الأدنى للأجور وبما لا يرقى إلى مستوى مناقشة اسس لنظام اقتصادي تتبناه قوى الثورة ويحظى بإجماع وطني أو ما يشبه الاجماع. إن هذا القصور في التعامل مع الوجه الاقتصادي للثورة أشاع حالة من الغموض وعدم اليقين وضعف الثقة لدى جماهير العاملين والموظفين ورجال الأعمال والمستثمرين، ناهيك عن الفلاحين الذين لا يرون أنفسهم حتى الآن في شعارات الثورة. " ثم عرضت في مقال لاحق في الشهر نفسه عناصر لخريطة طريق لعقد مؤتمر وطني للحوار الاقتصادي. وإنك قد أسمعت لو ناديت حيا، ولكن لا حياة لمن تنادي! كما قال الشاعر. فكان أن حل بنا جميعا سوء العقاب، وبدت الصورة في الاقتصاد وكأن المعبد سينهار على رؤوس الجميع. الآن أفقنا كثيرا عن ذي قبل ولكن بعد أن أصبح الثمن فادحا. نعم، كان من الممكن تصحيح الأوضاع الاقتصادية وتفادي الأزمة بثمن أقل وتضحيات أدنى بكثير عما سنتحمله جميعا في العام الحالي. ولا مناص أمامنا من التوصل إلى حلول يبدأ العمل بها منذ الشهر الأول من العام الجديد، وكما اصبحنا لا نملك رفاهية الاستمرار في الاختلاف ، فإننا على التوازي أصبحنا لا نملك رفاهية الانتظار حتى نتدبر أمرنا من جديد أو حتى نفكر في بدائل قد تكون أقل إيلاما. وإزاء الوضع الاقتصادي الراهن فإن أمامنا ركاما من مشاكل مزمنة تختلط بمشاكل أخرى تولدت بعد الثورة. فالعجز التجاري المزمن ازداد سوءا حتى أصبحنا نستورد بما قيمته جنيهين مقابل كل جنيه نحصل عليه من صادراتنا. ويزداد الأمر سوءا في ميزان تجارة السلع الغذائية حيث نستورد بما قيمته جنيه مقابل كل 25 قرشا من الصادرات الغذائية. وهذا يعني أننا أصبحنا أمة عاجزة عن إطعام نفسها أكثر من أي وقت مضى في تاريخنا. ولا يزال كثيرون في هذا البلد يعتقدون أننا مصدرا صافيا للوقود ومنتجاته في حين إننا أصبحنا نستورد ما يعادل 100 جنيه من الوقود مقابل كل 70 جنيها من الصادرات من هذه المجموعة السلعية التي تشمل النفط والغاز ومشتقاتهما. ولولا الزيادات المستمرة في تحويلات المصريين العاملين في الخارج، لكانت الأمور أشد سوءا في مصر عما هي الآن. فتحية لهؤلاء الذين يحفظون الوطن في قلوبهم وفي أعينهم بالفعل وليس بالكلام الفارغ. إن المشاكل المزمنة التي نواجهها تحولت إلى مشاكل هيكلية شديدة التداخل مع بعضها البعض. ولن يمكن حل هذه المشاكل بدون ألم، كما إنه ليس هناك من بديل لاستخدام مشرط الجراح لاستئصال بعض الأورام المزمنة في الاقتصاد مثل عجز الميزانية يقترب من 11% من إجمالي الناتج المحلي والديون العامة الداخلية والخارجية تقترب من 100% من إجمالي الناتج المحلي والدعم الذي تقترب قيمته تدريجيا من 30% من إجمالي الناتج المحلي. وبسبب هذه المشاكل الهيكلية المزمنة فإن البطالة تزيد عن 12% من قوة العمل في الوقت الذي تراجع فيه معدل الاستثمارإلى ما يقل عن نصف ما يجب أن يكون عليه لتشغيل طالبي العمل الجدد. هذا بصرف النظر عن الزيادات المطلوبة في الاستثمار لاستيعاب أعداد العاطلين الحاليين الذي تعجز أسواق العمل عن استيعابهم. لدينا إذن أزمة اقتصادية ومالية حقيقية لا شك إنها تزداد سوءا إذا أخذنا في الاعتبار جفاف منابع السيولة المحلية وتدهور قيمة احتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي إلى ما يقل عن احتياجات تمويل 3 أشهر من الواردات. وليس أمامنا في الظروف الراهنة من مخرج من هذه الأزمة وتجنب مضاعفاتها المؤلمة إلا من خلال ضخ سيولة مالية جديدة في الاقتصاد. وقد تختلف سبل توفير وضخ سيولة جديدة، لكن الذي لا خلاف عليه هو الحاجة العاجلة إلى السيولة. فنحن في حاجة إلى موارد مالية إضافية، وعلى وجه السرعة. ومن هنا تأتي أهمية قرض صندوق النقد الدولي الذي يوفر الأرضية لضخ 4.8 مليار دولار في الاقتصاد على مدى 22 شهرا، يضاف إليها ما لا يقل عن 10 مليارات دولار أخرى من أوروبا والولاياتالمتحدة شراكة دوفيل وغيرها من دول العالم. صحيح إننا نستطيع توفير سيولة مالية من مصادر أخرى مثل بيع أراض للإسكان أو أراض مخصصة للتنمية الصناعة إلى المصريين العاملين في الخارج. كما نستطيع أيضا زيادة المتحصلات من دخل السياحة ومن الاستثمارات الأجنبية المباشرة بعدد محدود من الاجراءات الشفافة وخلال مدة زمنية قصيرة. ونستطيع بالاضافة إلى ذلك استخدام أدوات جديدة للتمويل من شأنها أن تدعم نشاط بورصة الأوراق المالية. لكن مثل هذه التدفقات النقدية من الخارج لن تكون بديلا عن قرض صندوق النقد الدولي لمصر. فهذا القرض يوفر تمويلا عاجلا رخيصا كما يمثل ضمانا لتدفقات مالية إضافية، من شأنها أن تزيد من كفاءة الاقتصاد في المدى المتوسط والطويل. ولن يكون القوم في مصر أو البعض منهم، بمنجاة من خطر الغرق إذا انهار الاقتصاد. ولذلك فإن علينا جميعا أن نتعاون يدا بيد من أجل تجاوز خطر المحنة الراهنة. وقد أعجبتني كثيرا العبارة التي رددها وزير التجارة والصناعة المهندس حاتم صالح في عدد من لقاءاته خلال الحوار المجتمعي بشأن الاصلاح الاقتصادي والتي قال فيها إنه عندما ينزف الاقتصاد فإن أحدا لن يستطيع غسل يده من هذه الدماء التي تنزف بما في ذلك الحكومة والمعارضة والاعلام! وهذه العبارة صحيحة مئة في المئة. ولعلنا جميعا نذكر أنه في أوقات الشدة أو الأزمات الاقتصادية تتفق فيها القوى المجتمعية على خريطة طريق لتجاوز المحنة. وقد تتضمن خريطة الطريق هذه، كما حدث في الولاياتالمتحدة عام 2008 ، إجراءات غير تقليدية مثل اتفاقات تجميد الأجور التي يوقعها رجال الأعمال ونقابات العمال، واتفاقات تتضمن حصول الشركات والبنوك الرأسمالية على مساندة من الدولة قد تكون في شكل تمويل عاجل أو في شكل شراء لجزء من أسهم تلك الشركات والبنوك. وقد يتبع مثل هذه الاجراءات قرارات أخرى تشمل زيادة الضرائب وفرض بعض الأعباء الاضافية على الموسرين، وهو ما يحدث الآن في الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا على سبيل المثال. وإذا كانت ميزانية السنة المالية الحالية في مصر تتضمن زيادات في الانفاق الاجتماعي على الصحة والتعليم والاسكان والمعاشات والتأمين الاجتماعي والصحي لذوي الدخل المحدود، فإن الحكومة لن تستطيع الوفاء بهذه الالتزامات في الميزانية الجديدة بدون الحصول على موارد إضافية. لكن المشكلة التي تعترضنا هنا تتمثل في أن الفقراء وذوي الدخل المحدود ربما يتعرضون لآثار صافية سالبة بعد تنفيذ حزمة الاصلاح المالي والاقتصادي. ولذلك فإنه يجب على الحكومة أن تضمن أكبر قدر من الانضباط في الأسواق خصوصا أسواق السلع الأساسية وعلى رأسها سلة السلع الغذائية، حتى لا ينتقل عبء الضريبة كله أو معظمه إلى الفقراء. وأستطيع القول بلا مبالغة إن معدل النمو يستطيع أن يحقق زيادة بنسبة 30% عما هو مخطط له في السنة المالية الحالية إذا سادت حالة من الاستقرار السياسي والاجتماعي والأمني في البلاد. فإذا كانت الحكومة تسعى إلى تحقيق معدل للنمو يصل إلى 4% في السنة المالية الحالية، فإن الاستقرار، وهو متغير يمكن أن يتحقق تلقائيا من خلال إرادة التوافق، سوف يساعد على زيادة فورية في حصيلة السياحة وتدفقات الاستثمارات الأجنبية من الخارج وحصيلة الصادرات وزيادة الثقة في أنشطة السوق المحلية. وهذا يعني إننا يمكن أن نحقق بسرعة نموا بنسبة 6% في العام الحالي بدلا من 4% بشرط توفر عوامل الاستقرار المبنية على التوافق. إننا لا نبالغ أبدا إذا قلنا إن العالم كله ينتظر بفارغ الصبر أن تتوافق القوى المجتمعية في مصر، الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني بما في ذلك الأحزاب السياسية، حتى يمد يد المساعدة بقوة وفي كل الاتجاهات لمساندة الاقتصاد المصري ومساعدته على النهوض. السبب في ذلك إنه هو الاقتصاد الوحيد في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المؤهل ليكون قاعدة الانطلاق الأساسية إلى عمليات إعادة البناء في ليبيا وفي سورية وجنوب السودان وفتح أسواق أفريقيا الناشئة أمام تيارات النمو والاستثمار والاندماج في الأسواق العالمية. وليس هناك بديل عن التوافق ونبذ الخلافات السياسية والاحتكام إلى قواعد العمل المؤسسي حتى نضمن التعليم الجيد لمن هم في سن التعليم وفرص العمل الملائمة لمن هم في سن العمل والعلاج السليم لمن يعانون من المرض والسكن اللائق لمن هم في سن الزواج. وهذا هو ما يطمح إليه المصريون في الوقت الحاضر، وعلى النخبة السياسية أن تفهم ذلك . press_ik@ yahoo.com