بدون الدخول فى حوار مجتمعى قررت حكومة د.قنديل منذ أيام زيادة ضرائب المبيعات على العديد من السلع والخدمات، التى تمس حياة المواطنين، وما يترتب عليه من زيادة فى أعباء المعيشة، ولأن هذه القرارات جزء من برنامج الحكومة للإصلاح الاقتصادى المعروض على صندوق النقد الدولى كأحد متطلبات الحصول على 4.8 مليار دولار، ومن ثم فإن إلغاء هذه القرارات دعا الحكومة لتأجيل عرض البرنامج على جلسة مجلس إدارة الصندوق المقرر عقدها فى 19 ديسمبر. القضية أكثر تعقيداً أكثر مما يظن الكثيرون، فالحكومة كانت تراهن على قرض الصندوق، لكونه اعترافا من هذه المؤسسة الدولية بأن مصر تسير فى الاتجاه الصحيح، وبالتالى فإن ما حدث من تراجع يعد اعترافا من الحكومة بأنها فشلت فى تحقيق ما يستوجب اعتراف الصندوق بنجاحها، خاصة أنها فشلت فى تحقيق توافق مجتمعى على سياساتها، وهذا هو مطلب الصندوق الرئيسى. وهكذا أصبحت الحكومة مطالبة الآن بالبحث سريعا عن حلول بديلة للخروج من النفق المظلم، حيث تعدى الدين العام 1.4 تريليون جنيه، وتراجع الاحتياطى إلى نحو 15 مليار دولار منها 3 مليارات ودائع قطرية وسعودية وتركية، بالإضافة إلى العجز المزمن الكبير فى الموازنة العامة، وإنه بلغة الأرقام، فإن العجز فى الموازنة فى الربع الأول من العام الحالى سجل 50 مليار جنيه، وإذا عمم الرقم على الثلاثة أرباع المتبقية، يكون العجز المتوقع نحو 200 مليار جنيه، أى نحو 13% من الناتج المحلى الإجمالى، وهى نسبة تنذر بتعرض الدولة للإفلاس. ومن ثم! وبالتالى فلا قرض من الصندوق الذى طالما صدعت الحكومة رءوسنا به طوال العامين الأخيرين ولا شهادة ضمان دولية، لأن هذا العجز فى الموازنة مع ارتفاع معدلات التضخم يصعبان على الحكومة مهمة الوفاء بالتزاماتها أمام صندوق النقد الدولي، التى وردت فى برنامج الحكومة المقدم للصندوق بخفض العجز فى الموازنة إلى 8.5% من الناتج المحلى نهاية السنة المالية المقبلة، وهذا ما كانت تستهدفه من قراراتها الأخيرة، لتصبح الحكومة مضطرة للبحث عن بدائل لعجز الموازنة بعيدا عن الجباية. كشف ممتاز السعيد، وزير المالية، أنه تم الاتفاق مع صندوق النقد الدولى على تأجيل جلسة إقرار مجلس إدارة الصندوق، التى كان من المقرر عقدها فى 19 ديسمبر الحالى للموافقة على قرض لمصر بقيمة 4.8 مليار دولار إلى أجل آخر، متوقعا أن ينعقد الصندوق مرة أخرى فى يناير، لإقرار القرض. وقال السعيد إن الحكومة والصندوق اتفقا على تأجيل الموافقة على القرض لحين طرح بنود البرنامج الاقتصادى، ومنها التعديلات الضريبية الأخيرة، التى أجلها الرئيس المصرى، للحوار المجتمعى، وأن بعض وسائل الإعلام تسرعت فى تفسير الزيادات الضريبية الأخيرة، وأن هذه القرارات الضريبية لم تكن تمس محدودى الدخل، وأنها تدخل حكومى يهدف لتجنيب الدولة أزمة اقتصادية بتعزيز إيرادات الدولة. تجارب دولية وفى هذا السياق أكد مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء فى دراسة له بعنوان «تجارب دولية فى السيطرة على عجز الموارنة» أن أهم أسباب العجز فى الموازنة غياب ترشيد الإنفاق الحكومى وضعف الهيكل الضريبي، وارتفاع مستوى الدين الحكومي، وكبر حجم القطاع غير الرسمى مما يضعف الأداء الضريبي، وأن تفشى الفساد بين موظفى الحكومة يؤدى لارتفاع الإنفاق الحكومي، وأن مركزية القرارات يترتب عليها عدم السيطرة على عجز الموازنة. وعرضت الدراسة 3 صور للسيطرة على عجز الموازنة فى تجارب الدول، الأولي: ترشيد وتفعيل كفاءة الإنفاق العام عن طريق تحديد سقف للإنفاق الحكومي، وتطوير نظم الدعم، وترشيد نظم الحوافز والإعفاءات المالية، وترشيد برامج الضمان الاجتماعى والرعاية الصحية من خلال إصلاح نظام المعاشات، والنظم المالية للمرتبات الحكومية. الصورة الثانية، تقوم على تعظيم الإيرادات العامة عن طريق إصلاح النظام الضريبى بتوسيع القاعدة الضريبية، وتيسير عملية تقييم الضريبة، والإفصاح عن الوضع المالى لدافعى الضرائب ومشاركة قطاع الأعمال فى الخدمات العامة، وليس بزيادة الضرائب. أما الصورة الثالثة، وفقا لدراسة مركز معلومات مجلس الوزراء، تقوم على تبنى سياسات هيكلية من شأنها زيادة الإيرادات العامة للدولة عبر رفع كفاءة المؤسسات الحكومية، مما يترتب عليه من انخفاض فى تكلفة تقديم الخدمات، بالإضافة إلى خصخصة القطاع العام لرفع كفاءة النشاط الإنتاجى وزيادة الكفاءة الاقتصادية بمنشآت القطاع العام، والاتجاه إلى اللامركزية لترشيد الإنفاق الحكومي، وتفعيل دور القطاع الخاص فى تقديم الخدمات، وتفعيل دور مشروعات البناء والتشغيل ثم تحويل الملكية لنظام BOT. وأشارت دراسة «تجارب دولية فى السيطرة على عجز الموارنة» إلى أن الإصلاح السياسى والنظام الديمقراطى يؤديان إلى خلق ضوابط وشفافية الموازنة العامة، من خلال طرحها للجمهور ووجود آلية يتفاعل معها الجمهور مع السلطات الحكومية، وتقديم تفصيلات وشرح لهيكل الموازنة ودراسة آراء الجمهور المتعلقة بالموازنة العامة، بالإضافة إلى إعادة جدولة الديون لخفض أعباء خدمة الديون وتطوير هيكل وبنود الموازنة، وتحسين الإطار التشريعى والرقابى للموازنة. الحوار من جانبه أكد د. على حافظ منصور، أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة، أن الوضع الحالى يحتاج إلى تطبيق برنامج إصلاح اقتصادى جاد على أن يتم طرح كل بنوده للحوار المجتمعى، وأن نجاح الحكومة فى هذا الأمر مرهونة بقدرتها على إقناع المواطن بأنها تبحث عن صالحه فقط فى كل تحركاتها، وأن توفر له دائما ضمان تحقيق التنمية مقترنا بشىء من التقشف وترشيد الاستهلاك للمواطنين. وقال د. حافظ إنه الأولى للحكومة إيجاد حلول تساهم فى توفير الأموال اللازمة دون التأثير على السلع الأساسية قدر المستطاع، وخاصة لمراعاة محدودى الدخل، فلا مانع من زيادة أسعار السلع الكمالية أو الترفيهية مثل السجائر والخمور إلى جانب الكثير من الإجراءات، التى يمكنها أن تكون حلولا مؤثرة لأزمة الاقتصاد الحالية مثل فرض ضرائب تصاعدية. وأضاف أنه من الممكن أيضا أن تبدأ الحكومة خطة تقشف جادة بحيث يتم الاستغناء عن مصروفات الرفاهية وتحديد حد أقصى للأجور يحد من المرتبات الكبيرة، بالإضافة إلى الاستغناء عن المستشارين القابعين فى مختلف هيئات الدولة بدون فائدة، مؤكدا أنه لو استطاعت الحكومة البدء بتلك الإجراءات لاستعادة ثقة الشارع، ووجدت تعاونا من المواطنين. نصيحة للحكومة ونصح د. إسماعيل شلبي، مستشار هيئة سوق المال الأسبق، حكومة د. قنديل أن تغير سياساتها الاقتصادية الرامية إلى سد عجز الموازنة، التحول من السبل التقليدية المتمثلة فى الاقتراض والجباية وإصدار النقود لما يترتب عليها من مخاطر، والعمل على زيادة الاستثمار الأجنبى والمحلى، لزيادة الإنتاجية التى هى السبيل الوحيد الآمن الآن للخروج من المأزق الحالى. فيما أكد د. عبدالمطلب عبدالحميد، عميد معهد البحوث والدراسات بأكاديمية السادات للعلوم الإدارية، أن الإصلاح الضريبى ضرورة ملحة لزيادة ايرادات الدولة، وأن الإصلاح يجب أن يحظى بقبول جماهيرى قبل البدء فى تطبيقه، فإنه من الضرورة البدء فى تطبيق ضريبة تصاعدية وأخرى رأسمالية، فضلا عن أهمية مراجعة منظومة الدعم التى تستحوذ على نحو 30% من الموازنة. وأشار عبد الحميد إلى أن البديل الثانى لتدبير الموارد هو الاستدانة، وهى طريقة سهلة تمتص قوة شرائية، وتخلق حالة من الاستقرار ولا ترفع التضخم، لكن لا يمكن تخطى حدود الأمان، لأن ذلك يعنى العجز عن السداد أو «الإفلاس»، ولذلك ينصح الخبراء بألا تزيد مديونية الدولة على 60% من حجم الناتج المحلى الإجمالى، وهذا ما يمثل تهديدا الآن للاقتصاد المصرى بعد أن تخطى الدين هذه النسبة. عجز أما د. محمد البلتاجى، رئيس الجمعية المصرية للتمويل الإسلامى، فأوضح أن زيادة الضرائب والأسعار نوع من العجز عن إيجاد حلول لزيادة موارد الدولة وضبط الموازنة العامة، فى حين توافر العديد من الحلول الممكنة كرفع أسعار الطاقة للمصانع، التى تبيع منتجاتها بالأسعار العالمية مثل شركات الاسمنت والحديد؛ فضلا عن تحصيل فروق أسعار الأراضى التى تم بيعها سابقا كأرض زراعية وتحولت فى غيبة الرقابة إلى منتجعات سياحية. ولفت البلتاجى إلى أنه من الممكن أيضا زيادة الإيرادات عبر ضبط بنود الترفيه فى ميزان المدفوعات، وكذلك خلق مشروعات استثمارية متكاملة يتم تمويلها عبر آلية الصكوك الإسلامية، التى يتم طرحها من قبل الدولة، مؤكدا أن الحلول متاحة والأمر يحتاج إلى تخطيط جيد يقوم على دراسات واقعية تضع فى اعتبارها المواطنين.