اختارت منظمة "أوكسفام" أن تصدر تقريرها السنوى المثير للجدل دائما عشية انعقاد المنتدى الاقتصادى العالمى وكأنها تستهدف تعكير مزاج نحو ألف شخصية عالمية تجتمع فى دافوس فى هذا الوقت من كل عام لرسم ملامح الاقتصاد الدولى فى العام الجديد. كالعادة حمل تقرير أوكسفام العديد من الأرقام الموحية التى تبرز التناقض بين أحوال الأثرياء والفقراء حول العالم. وقد اهتمت وسائل الإعلام بالطبع بما أورده تقرير أوكسفام من أن 26 مليارديرا يملكون 1.4 تريليون دولار بما يعادل دخول 3.8 مليار نسمة حول العالم، أى نحو نصف سكان الكرة الأرضية! المقارنة مثيرة بالطبع ولا سيما فى مثل هذه الأجواء المضطربة التى تشهدها دول كثيرة حول العالم شرقه وغربه، ولكن هذا ليس أهم ما ورد فى تقرير أوكسفام الذى يقع فى 106 صفحات، فقد أشار التقرير إلى أن ثروات نحو 2208 مليارديرات حول العالم تزيد بنحو 2.5 مليار دولار يوميا. والأهم أن ثروات هؤلاء تضاعفت تقريبا منذ انفجار الأزمة المالية العالمية قبل عقد من الزمان.. وهنا يأتى التماس بين ما أوردته أوكسفام من أرقام ومؤشرات، وبين فعاليات منتدى دافوس وأهدافه باعتباره النادى الذى تصاغ فيه السياسات المالية والاستثمارية للصناديق العالمية والشركات الكبرى واتحادات الأعمال العملاقة. ومنذ إنشائه عام 1971 تحت اسم المنتدى الاقتصادى الأوروبى نجح مؤسسه الألمانى كلاوس شواب فى أن يعطى للمنتدى زخما دوليا وأخذ يتطور حتى أصبح منصة للاستثمار وصنع السياسات وهو ما أجبر أهل السياسة بمن فيهم رؤساء الدول على الاشتراك فى المنتدى السنوى لإقناع رجال المال بالعمل فى بلادهم، وهو ما أدى فى النهاية إلى أن أصبحت دافوس أحد أهم المحافل الدولية التى تصنع فيها السياسات وتتفاعل الآراء والاتجاهات السياسية والاقتصادية رغم أن المنتدى لا يحمل صفة رسمية على غرار الأممالمتحدة مثلا أو منظمة التعاون الدولى والتنمية أو مجموعة العشرين وغيرها من التجمعات السياسية التى يغلب عليها الطابع الاقتصادى. مشكلة منتدى دافوس أنه منذ ثمانينيات القرن الماضى استسلم لمدرسة شيكاغو فى الاقتصاد التى أنشأت النيوليبرال والعولمة وتبنت القوانين المتطرفة لاقتصاد السوق، ولأن هذه الأفكار لاقت قبولا لدى الشركات العملاقة وصانعى السوق فقد رمت بثقلها وراء دافوس، وتصادف أن دولا مثل الصين ودول جنوب شرق آسيا فضلا عن بريطانيا والولايات المتحدةالأمريكية وجدت نفسها مستفيدة من العولمة واقتصاد النيوليبرال فتلاقت المصالح الاقتصادية والسياسية لتدعم من قوة منتدى دافوس ونفوذه. كثير من الخبراء وبينهم حاملو جائزة نوبل فى الاقتصاد يعتبرون أن العولمة واقتصاد السوق المتطرف كان وراء اندلاع الأزمة المالية العالمية فى 2008، والآن تأتى أوكسفام لتقول إن ثروات الأغنياء تضاعفت منذ هذا الوقت وهذا المؤشر يقدم تفسيرا عمليا لأسباب تراجع دخول والقوة الشرائية للطبقات المتوسطة والأقل دخلا حول العالم فى هذه الفترة نفسها على اعتبار أنهم هم من تحملوا سداد فاتورة الخسائر الناجمة عن الأزمة المالية وهو ما أدى كما نعرف إلى صعود اليمين الفاشى وصعود ترامب نفسه والاحتجاجات الواسعة فى أنحاء أوروبا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط، فالكل يعانى من تراجع مستويات المعيشة بدرجات متفاوتة. أجندة دافوس هذا العام لم تتعظ من التطورات المتلاحقة وآخرها احتجاجات السترات الصفراء فى فرنسا والتى تهدد أوروبا كلها، فالأجندة تبحث أثر البريكست وصعود الحروب التجارية وتراجع النمو الصينى وحتى الإغلاق الحكومى الأمريكى تضمنته أجندة المنتدى، ولكن الأجندة تجاهلت أزمة تفاقم الديون العامة والخاصة وبوادر حدوث أزمة مالية عالمية ثانية، وبالطبع لم تتضمن موضوعات المؤتمر قبل انعقاده أى إشارات إلى الاحتجاجات الشعبية ضد الفقر وتراجع مستويات المعيشة وإن كانت هذه القضايا سوف تفرض نفسها على الأقل فى المحادثات الجانبية للأعضاء. الحديث عن الهوة التى تفصل بين الأغنياء والفقراء أصبح مادة أساسية فى الإعلام الغربى، وهى كذلك موضوع ثابت فى مراكز الدراسات والجامعات العريقة، ثم إنها بعد ذلك تحولت إلى الشوارع من فرنسا إلى السودان، وكان حريا بمنتدى صناع السياسات فى دافوس أن يقترب أكثر من اهتمامات الناس والعمل على تصويب سياسات الاستثمار والتمويل والسياسات التجارية بما يلائم المطلب الشعبى حول العالم بضرورة تضييق الفجوة بين الأثرياء وبقية شرائح المجتمع، وهو أمر يتطلب تغييرات جذرية فى الأسس والنظريات التى تحكم الاقتصاد حول العالم، وهذه مهمة صعبة وجليلة فى الوقت نفسه وتحتاج من المنتدى الاقتصادى العالمى أن يصوب نفسه.. أو يتجاوزه الزمن.