علمتنا ثورة 25 يناير والأزمة المالية التى عصفت بمعظم دول العالم المتقدم منها والنامى بضرورة ضبط النفس على المستوى السياسى . وأنه لأمر طبيعى ألا يتورع الساسة المعارضون عن استغلال الصعوبات التى تمر بها البلاد فى سبيل الفوز بالسلطة . ولو كنا نعيش فى عالم مثالى، لكنا نشهد الآن وضع خطة عمل محدودة زمنيا وباتفاق كافة الأطراف، ولكانت هذه الخطة تمثل حدود ما هو ممكن على المستوى السياسى . ولكن من المؤسف أن الشقاق السياسى فى مواجهة الضغوط المالية ينتهى دوما إلى إلحاق أضرار بالديمقراطية والاقتصاد أعظم كثيرا مما قد تلحقه بهما الوطنية الغريزية . ومن ثم يتعين على الناخبين والساسة أن يتوخوا الحرص والحذر من الأساليب البسيطة إلى حد الإغواء فى التعامل مع مشاكل الديون اليوم . وألا يلجأوا إلى تراكم ديونهم انتظارا للأيام السعيدة . فكل ما هو مطروح اليوم فى ساحة الاقتراض سيكون ثمنه رهنا بالغ القسوة من الأصول الوطنية الثمينة والعزيزة على كل مصرى . والإلحاح المستمر على ضبط الموازنة فى أعقاب الثورة ذات منطق ظاهرى جذاب، ولكن من المؤسف أن الأمر ليس بهذه البساطة . فالحكومة عادة تلتزم بعدد لا يحصى من أوجه الإنفاق الجارية المرتبطة بالخدمات الأساسية مثل الدفاع الوطنى، ومشاريع البنية الأساسية، والتعليم، والرعاية الصحية . . الخ . ولا تستطيع أى حكومة أن تتخلى ببساطة عن هذه المسئوليات بين عشية وضحاها . لهذا يجب على صانع القرار أن يعود إلى ما ابتكره كينز الذى يفترض أن العجز الحكومى لا يشكل أهمية عندما يكون الاقتصاد فى ركود عميق، بل وكلما كان العجز أكبر كان ذلك أفضل . و" إنهاء العجز" يعنى ببساطة القضاء على العديد من الوظائف، فى القطاعين العام والخاص، التى يتوقف وجودها على العجز . والواقع أن التكاليف الاقتصادية والإنسانية المترتبة على خفض العجز فى أى اقتصاد ضعيف تكون خطيرة عادة، ولن تتحقق الغاية المطلوبة فضلا عن ذلك، لأن خفض الإنفاق من شأنه أن يؤدى إلى تآكل الإيرادات الحكومية مع هبوط الطلب الكلى . والواقع أن الغضب الشعبى فى كثير من بقاع الأرض إزاء خفض الموازنات الذى فرِض بإيعاز من المضاربين والمصرفيين تحت لواء صندوق النقد كان سببا فى الإطاحة بكثير من الزعماء فى عدد كبير من الدول . والدول التى تسير خلف صندوق النقد الذى يتزعم التحرير الكامل وضرورة القضاء على العجز مصيرها الفشل خاصة بعد المستجدات التى حدثت على الساحة العالمية خلال العقد الأخير، الذى شهد أكبر حدثين الأول، الحرب ضد الإرهاب، والثانى أسوأ أزمة مالية واقتصادية . ومن المرجح أن يكون العقد الحالى هو عقد الديون العامة . فالعديد من الحكومات تتصرف وكأنها تمر بنكسة اقتصادية مؤقتة وأن زمن الرواج السعيد الذى كان سائدا قبل الأزمة سوف يعود قريبا، لكن بعد هذه الأزمة لن يعود أى شىء فى الاقتصاد إلى سابق عهده . فانخفاض أسعار الفائدة الطويلة الأجل أصبح شيئا من الماضى . فمع ارتفاع مستويات العجز الحكومى والديون العامة فى العديد من البلدان المتقدمة والناشئة، بات من المرجح أن تطالب أغلب الأسواق المالية بعلاوة مجازفة أعلى، وذلك بسبب المخاوف المتصاعدة من التخلف عن سداد الديون والتضخم فى المستقبل . وعلى هذا فإن الديون العامة ليس من المرجح أن تزداد بسرعة أكبر من نمو الناتج المحلى الإجمالى فحسب، بل وسوف يكون لزاما على الحكومات أيضا أن تكرس حصة متزايدة من عائداتها لسداد الفوائد المتزايدة على ديونها . فالعصر الذهبى للتمويل قد ولى . وعادت القوة لصندوق النقد بما يمتلكه من سلطات وأدوات يستطيع بها فرض قراراته على جميع أعضائه بعد أن كان فى طريقه إلى التصفية . والحقيقة التى لا يعرفها الكثيرون أن صندوق النقد الدولى واحد من الجهات التى استفادت من الأزمة الاقتصادية العالمية . فقبل اندلاع أزمة 2008 كان فى انحدار، وكان الطلب على قروضه منخفضا، الأمر الذى أدى إلى تضاؤل عائدات الصندوق، حيث ظلت آسيا متمسكة بالحذر فى التعامل مع الصندوق بعد أزمة العملة التى ألمت بها فى أواخر تسعينيات القرن العشرين . وكانت محاولات تقليصه جارية على قدم وساق، وبدأ خبراء جادون فى التساؤل عما إذا كان من الواجب إغلاق الصندوق . وكما هو الحال بالنسبة لبنوكنا تتوقع المشاكل من الصغار مع أن الكبار هم من يتسببون فى المشاكل، كذلك الحال بالنسبة للصندوق حيث يتوقع المشاكل عادة من جانب المشتبه بهم المعتادين وهى البلدان النامية المتقلبة اقتصاديا، لكن الأزمة المالية نشأت على بعد بضعة أميال من مقر الصندوق الرئيسى . ويرجع البعض ذلك إلى العجز الديمقراطى الواضح الذى يمثل تحديا خطيرا لشرعية سياسات الصندوق وقدرته على موازنة الأوضاع المتأزمة بفاعلية . فبسبب خضوع صندوق النقد الدولى لأمريكا، الحامل الأوحد لحق النقض فيه، وأوروبا التى ترشح رئيسه دوما لا يستطيع الصندوق أن يدير شئون العالم المالى بحيادية . فعندما اقترح صندوق النقد الحاجة إلى بناء طريقة جديدة لإعادة هيكلة الديون بعد أزمة الأرجنتين، رفعت أمريكا الفيتو فى وجهه . وعندما تقدمت منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية باتفاقية تحد من السرية المصرفية، رفعت إدارة بوش الفيتو فى وجهها أيضا . وكل محاولة للتغيير لتحسين وضع الصندوق وجعله مؤسسة تكسب ثقة الآخرين تبوء بالفشل حيث يدرك الصندوق والخزينة الأمريكية أن التغييرات المطلوبة على الرغم من الرغبة العالمية فى تحقيقها لم تكن فى صالحهما . وعلى الجانب الآخر تحاول الولاياتالمتحدة توسيع الدور الذى يضطلع به صندوق النقد الدولى، وذلك لأنها تتصور أنها بهذا تزيد من الضغوط على الصين . لكن هذا التباهى يتسم بقصر النظر . وقد وعت الدول الآسيوية الدرس من أزمتها الماضية ومن ثم لم تتأثر كثيرا بالأزمة المالية الأخيرة، وأيقنت أن تكلفة برامج الصندوق باهظة لأنها لا تراعى متطلبات التنمية، وطبيعة المشكلات الاقتصادية الهيكلية . كما أن تسهيلات الصندوق قصيرة الأجل، ولعلاج المشكلات الطارئة، بينما معظم الدول النامية هى فى حاجة لتمويل طويل الأجل . وتجوب بعثات الصندوق البلاد المختلفة للمراقبة والتفتيش والمحاسبة والاطلاع على كل برامج الاقتصاد، ودراسة التقارير عن النفقات والمدخولات لميزانيات تلك الدول . ومن ثم ليست المشكلة فى قرض لا يتجاوز ثلاثة مليارات دولار، لكن المشكلة فى تبعات القرض وتأثيره على السياسة المالية والاقتصادية لمصر فتحركه سياسى أكثر منه اقتصادى أو مالى . فالتحرير الكامل وضرورة القضاء على العجز كانتا السبب المباشر فى تراكم الديون وفى حدوث الأزمات، فالانهيارات المالية الكبرى عادت فى سبعينيات القرن العشرين، بعد غيابها الكامل تقريبا فى الخمسينيات والستينيات، فى ظل نظام كينز لإدارة الاقتصادات الموجهة ونظام بريتون وودز لأسعار الصرف المروضة . فلقد حدثت كل هذه الأزمات بسبب إلغاء القيود التنظيمية المفروضة على البنوك والضوابط المفروضة على تحركات رأس المال، وهذا ما أكده كل من روجوف وراينهارت فى كتابهما " هذه المرة مختلفة" وبدلا من السير نحو استعادة الأموال المهربة، واسقاط الديون نسير فى الطريق الخاطئ نحو العشق القديم لصندوق النقد . فجون جاناكوبلوس من جامعة ييل يطالب بشطب الديون على اعتقاد مفاده أن الدائنين يشتركون مع المدينين فى المسئولية عن العجز عن سداد الديون، لأنهم قدموا القروض الرديئة فى المقام الأول . وما دام المقترض لم يضلل المقرض فى وقت تلقيه للقرض، فإن المقرض يتحمل على الأقل بعض المسئولية عن الأمر . واستشهد روبرت هوس استاذ القانون الدولى بالحالة المصرية حيث ذكر على لسان وزيرة التعاون الاقتصادى فايزة ابو النجا بأن مبارك نفسه كان يوجه سياسة الدين الاجنبى للبلاد " ويشرف على العملية باكملها " ومن ثم يرى أنه بمقدار مساهمة المبالغ بالقمع الداخلى أو الإثراء الشخصى لقادة النظام، فإن من الممكن ان الدائنين يتحملون بعض المسئولية أو على أقل تقدير المسئولية عن التخفيف على دافعى الضرائب من عبء الدين الذى تم اكتسابه بشكل يخالف مصالحهم او بدون اهتمام بتلك المصالح . ويؤكد هوس على ان غالبية الدين الخارجى المصرى المقدر بمبلغ 3537 بليون دولار هو مستحق لمصلحة دائنين رسميين " حكوميين" ولمؤسسات تنموية متعددة الأطراف وإقليمية وفى الوقت نفسه يصف البنك الدولى بشكل علنى مصر على أنها من أكثر بلدان المنطقة فسادا، كما أن مؤسسة التمويل الدولية التابعة للبنك الدولى قد أبقت على مصر كواحدة من زبائنها الرئيسيين . وأن إسقاط الديون أو التخفيف من عبئها سوف يسهل على الأنظمة الجديدة المضى قدما بسياسات ملحة وخلق الوظائف وتحسين البنية التحتية وتطوير القوى البشرية . وقد حث كينز فى عام 1918، على إلغاء الديون بين الحلفاء الناشئة عن الحرب العالمية الثانية، فكتب:" لن نتمكن أبدا من التحرك مرة أخرى ما لم يكن بوسعنا تحرير سيقاننا من هذه الأصفاد الورقية " . وفى عام 1923 تحولت دعوته إلى تحذير من المفيد أن يلتفت إليه صناع القرار السياسى اليوم:" إن الطغاة شركاء حقيقيون فى الثورة " . وقاد جوردون براون وزير مالية بريطانيا حملة كبرى من أجل إسقاط الديون عن إفريقيا على غرار حملة بيكر بقيادة الرئيس بوش بإسقاط ديون العراق، لكنها باءت بالفشل على عكس حملة بيكر . فقد حظيت مهمة بيكر بدعم بلا حدود من الولاياتالمتحدة التى كانت تواجه التكاليف الهائلة لإعادة إعمار العراق وكانت موجهة للدول بعكس حملة براون التى كانت موجهة للصندوق والبنك الدولى . وانتقد سانو موباى من بنك التنمية الإفريقى أسلوب عمل الصندوق الذى يؤدى إلى تراكم المديونية على الشعوب ويزيد البلدان فقرا، فلقد تولى صندوق النقد والبنك الدولى تحديد وتقييم وتمويل المشروعات التى أدت إلى تراكم ديون إفريقيا بالتدريج . . كما توليا مراقبة والتصديق على استقدام المستشارين الذين تولوا توجيه الدراسات المتعلقة بهذه المشروعات، علاوة على استقدام الشركات الأجنبية التى عملت فى تنفيذ المشروعات . وأثناء فترة التنفيذ قام صندوق النقد الدولى والبنك الدولى بمهام إشرافية دورية . ولكن على الرغم من كل تلك الإجراءات الباهظة التى تحملها الأفارقة فقد أصبحت الدول المدينة ملزمة بخدمة هذه الديون وتسديد فوائدها بأى وسيلة، بما فى ذلك المزيد من الاقتراض والتورط، وبالتالى المزيد من الفقر . ومن ثم هناك حملة يقودها بعض الاقتصاديين الأفارقة انتهت إلى مناشدة أساتذة القانون والاتحاد الإفريقى برفع قضايا ضد الصندوق والبنك الدولى وتجميد الديون حيث أدت القروض إلى مزيد من المديونية وتزايد الفقر . وفى كل مرة نرفع سيف الاعتماد على الذات وعدم اللجوء إلى الصندوق تتعالى بعض أصوات مدرسة الديون بتحذير المسئولين من هيئات التصنيف الائتمانى مع أن هناك اتهامات كثيرة طالت تلك الهيئات من الخبراء والمختصين الأمريكان واتهموها علنا بالفساد، فلوسيان ببشيك بكمبريدج يقر بأن وكالات التقييم تخلت عن المستثمرين . والواقع أن العديد من المنتجات المالية المرتبطة بالقروض العقارية، التى صنفتها مؤسسات مثل ستاندرد وبور، ومودي، وفيتش، باعتبارها منتجات آمنة أثناء سنوات الرواج والازدهار، تبين فى نهاية المطاف أنها كانت خطيرة إلى حد مهلك . والمشكلة هنا لا تقتصر على مثل هذه المنتجات المالية: فما دام بوسع الجهات المصدرة لسندات الدين الأخرى أن تختار الشركات التى تتولى تقييمها وأن تدفع لها تكاليف تقييمها، فإن الحوافز التى تدفع هذه الوكالات إلى الرد بمنح هذه السندات تقديرات جيدة باتت قوية للغاية . ويطالب المستثمرون بإقامة دعاوى قضائية على هذه الوكالات كما يطالب بإزالة أى اعتماد تنظيمى على تقديرات وكالات التقييم . فكيف نكرر الخطأ مرة أخرى باللجوء إلى الصندوق الذى أضاع أربعة عقود من التنمية على مصر ونلجأ إليه فى الوقت الذى ألمت فيه المصاعب بالاقتصاد الغربى، بالإضافة إلى أن قدرة الاقتصاد القومى على الوفاء بالتزماته الخارجية تتسم بصعوبات، وأن حصيلة النقد الأجنبى تتسم بعدم الثبات والاستقرار فحصيلة الصادرات، فهى وإن كانت تمثل المصدر الرئيسى للعملات الأجنبية، إلا أن هذه الحصيلة تتعرض دائما للتقلبات المختلفة خاصة بعد إعادة النظر فى استراتيجيات التصدير التى كانت وراء نجاح الدول الآسيوية فى الستينيات والسبعينيات والتسعينيات من القرن الماضى . press_ik@ yahoo.com