دخلت نهاية القرن العشرين التاريخ العالمي باعتبارها فترة إفقار عالمي, اتسمت بانهيار النظم الانتاجية في العالم النامي, وتصفية المؤسسات الوطنية, وتحلل البرامج الصحية والتعليمية. وتمثل تلك التجارب مرآة لأي برامج إصلاح اقتصادي في العالم سواء ما اذا كان لدولة نامية أو متقدمة.إن الدواء الاقتصادي القوي المتمثل في عملية إعادة الهيكلة الاقتصادية التي يفرضها الدائنون الدوليون علي البلدان النامية منذ أوائل الثمانينيات, أو ما يسمي إصلاحيات الاقتصاد الكلي, أو برامج التكييف الهيكلي الذي ترعاه مؤسسات( بريتون وودذ) متمثلا في صندوق النقد الدوليMF)والبنك الدولي(WB) هو الرد في كل أنحاء العالم لمواجهة الأزمات الاقتصادية. ويدفع الناس إلي الاعتقاد بأنه ما من حل أخر. حيث ينبغي أن تغلق المنشآت, وأن يسرح العمال, وأن تخفض البرامج الاجتماعية. وفي هذا السياق فإن الإصلاحات حين تدفع إلي مداها الأقصي هو الانعكاس القاسي( لنموذج اقتصادي) مدمر يفرض تحت جدول الأعمال النيوليبرالي علي المجتمعات في كل أنحاء العالم غير أنه ولا شك هناك عجز لدي المستشارين الاقتصاديين عن كشف التزييفات النظرية للإطار الاقتصادي لصندوق النقد الدولي. وليس هناك تحليل لكيفية عمل الحزمة الاقتصادية للصندوق فعليا. كما أن المعرفة ضئيلة في جميع الدول ومنها بالطبع مصر بالخبرات السياسية في البلدان الأخري في هذا المجال.ففي الدول النامية أفريقيا: أسهم تدخل الصندوق والبنك الدولي في أوائل الثمانينيات في تفاقم أزمة الزراعة الصومالية, وفرض علي الحكومة برنامج تقشف شديدا للغاية لتوفير الأموال اللازمة لخدمة ديون الصومال لنادي باريس. وفي واقع الأمر فالصندوق يساعد علي تمويل برنامج تكييف, أحد أهدافه الرئيسية هو سداد ديون الصندوق ذاته. وقد نجم عنه تدمير الزراعة الغذائية, وانهيار اقتصاد الماشية, بل وتدمير الدولة, مما نجم عنه ظهور المجاعات في أفريقيا جنوب الصحراء. حيث كشفت خبرة الصومال كيف يمكن تخريب بلد ما بالتطبيق المتزامن للمعونة الغذائية وسياسات الاقتصاد الكلي.وفي بنجلاديش: أدي الانقلاب العسكري في عام1975 إلي تنصيب طغمة عسكرية بدعم من المخابرات الوطنية ودعم من مكتب وكالة المخابرات المركزية في دكا, وقد وضعت وزارة الخارجية إطارا( لانتقال سياسي مستقر) يجري في أعقاب استيلاء الجيش علي السلطة. واعتبرت بنجلاديش حالة اختبار معملية يمكن فيه تجربة( الدواء الاقتصادي) لصندوق النقد الدولي. وبالفعل تم وضع برنامج تثبيت اقتصادي أسهم في تخفيض سعر العملة وتحرير الأسعار وتفاقم وضع المجاعة. وقد أدي البرنامج إلي تعزيز التجارة الخارجية, وإعادة تدوير أموال المعونة في نشاط اقتصادي ريعي) وكذلك دعم أفراد أقوياء داخل الجيش لمصالحهم التجارية.وفي فيتنام: أدي التدخل من جانب الصندوق إلي تدمير الاقتصاد الوطني من خلال آلية( السوق الحرة) حيث أسهمت الإصلاحات في تعطيل واضح للطاقة الانتاجية, وكان جدول الأعمال الخفي للإصلاحات هو زعزعة قاعدة فيتنام الصناعية: فالصناعات الثقيلة وصناعة النفط والغاز والمواد الطبيعية والمناجم والأسمنت والصلب سيعاد تنظيمها ويستولي عليها رأس المال الأجنبي. وكذلك أدي إلي إبعاد المنتجين المحليين عن سوقهم, وخنق قنوات التجارة الداخلية. كما أدي إلي تحلل مالية الدولة العامة, فالبنك المركزي غير مسموح له بتوسيع عرض النقود أو إصدار عملات, دون موافقة صندوق النقد الدولي. وليس مسموحا له بمنح قروض أو تمويل للمنشآت المملوكة للدولة, مما دفعها للإفلاس. وعليه فقد أدي إفلاس منشآت الدولة إلي انهيار العائدات الضريبية. كما أسهمت الإصلاحات في وقوع انهيار شديد للاستثمار العام. وفي نهاية المطاف ترتب علي ذلك تفشي المجاعة, وسوء تغذية الأطفال, وتدمير التعليم, وانهيار النظام الصحي, وعودة الأمراض المعدية, وبالإجمال فقد فككت الإصلاحات بوحشية القطاعات الاجتماعية في الدولة.وفي أمريكا اللاتينية في بيرو: أدت تدابير التقشف التي أوصي بها صندوق النقد الدولي إلي ذبول برامج الحكومة: أي تخفيض المصروفات علي الصحة والتعليم وانهيار الادارة المدنية في الأقاليم. كما خلقت الصدمة الاقتصادية في عام1990 زيادة نمو تجارة المخدرات, وتم تجميد الأجور والمصروفات الحكومية وتم تقييد إصدار البنك المركزي للنقود, حيث عانت كل قطاعات الاقتصاد الوطني باستثناء انتاج الكوكايين, أي أن برنامج الإصلاح الاقتصادي الكلي أدي إلي تقويض الاقتصاد الشرعي وعزز التجارة غير المشروعة.وفي يوجوسلافيا السابقة: أدت الإصلاحات إلي تفكيك يوغوسلافيا وإعادة استعمار البوسنة والهرسك. فقد أدي البرنامج الإصلاحي إلي انهيار الاقتصاد الوطني, مما ساعد علي تحلل القطاع الصناعي, والتفكيك التدريجي لدولة الرعاية الاجتماعية. مما هدد حياة ملايين من الناس والذي دمر حياتهم, وأنتقص حقهم في العمل, وطعامهم وملجأهم وثقافتهم وهويتهم الوطنية. ودفع المؤسسات العامة إلي الإفلاس, وتحلل النظام المصرفي.إن دواء صندوق النقد الدولي من خلال ما يسمي إصلاحات الاقتصاد الكلي, مصمم لإنفاذ التزامات خدمة الدين ولكنه في الأصل يرمي كذلك إلي( زيادة تراكم الدين) وشل الاقتصاد الوطني, وفرض قدر أكبر من الاعتماد علي الدين الخارجي مما ينعكس بالاساس علي وصول الدولة إلي مرحلة حرجة وحلقة مفرغة من الانصياع والخنوع والخضوع للدائنين!.