عندما احتفلنا بمئوية ميلاد الزعيم جمال عبد الناصر تذكرت ليلة وفاته، لما دق باب بيتى جارى الرائد سعيد فكرى، الذى ولدنا معنا فى اليوم ذاته. وطلب منى أن أفتح التليفزيون بسرعة. وجلسنا نستمع إلى بيان وفاة الزعيم. وجلست أفكر وأنا أغالب دموعى مسترحما على الرجل الذى عشقته أمته، وأول ما جال بخاطرى أنه غادرنا قبل أن يكمل بعض مهامه. وكان شاغلى الأكبر أن مصر خسرت حربا وما زال جزء منها محتلا، لكن كنا على ثقة أن حرب 1967 لم تكن انتصارا لإسرائيل وإنما إخفاقا من جانب مصر، وأننا قادرون على إزالة العدوان. وظللت أتحسر على أن الزعيم مات قبل أن يعلمنا النظام، وأن نقف فى صفوف، ونحترم قواعد القيادة. ولو أنه طلب منا ذلك لسرنا وراءه لحبنا له مغمضين. كذلك كنت قلقا من أن الحياة السياسية فى مصر لم تنتظم أو تكتمل. فكانت تسير تحت شعار أطلقه الزعيم وهو: «الحرية كل الحرية للشعب، ولا حرية لأعداء الشعب» وتاهت أمور كثيرة عندما أخفقنا فى تعريف من هم أعداء الشعب، وكثيرا ما كنا نشير للعدو الخطأ. وبعدها بأيام وفى جنازة الزعيم التى شاركت فى مقدمتها مرافقا لوفود العزاء أدركت عظم ما فاتنا، فالجنازة التى أعد لها أن تبدأ عند مبنى مجلس قيادة الثورة ومن أجلها أغلقت كل مداخل جزيرة الزمالك إلا أمام المشيعين من الوفود الرسمية، فوجئنا من بدايتها بهجوم شعبى كاسح على عربة المدفع والنعش. وخرج علينا مئات من البشر لم ندر كيف وصلوا للموقع، واختطفوا النعش وساروا بعربته عابرين كوبرى قصر النيل إلى موقع فندق هيلتون. أما الجنازة الرسمية فلم تسر سوى خطوات قبل أن تتوقف تماما. وشاهدت بعينى الصف الأول من كبار قادة العالم يقع تحت ضغط الزحام المفاجئ، ووقعت عصا الأنبا مكاريوس زعيم قبرص وكاد الدكتور محمود فوزى يقع على الأرض. وأغمى على كل من نائب الرئيس أنور السادات، وقبله السيد على صبرى. وعادهما طبيب رئيس وزراء رومانيا «إيلى ماورر»، الذى شارك فى الجنازة ومعه طبيبه وعربة إسعاف خاصة. ويفسر هذا الخلل لماذا لم تسجل الجنازة «الرسمية» ومشاركة رؤساء الدول فيها رغم أن الجنازة الشعبية اعتبرت أكبر جنازة فى التاريخ، وهناك تأكد حجم خسارة أن الزعيم لم يعلمنا النظام واحترام الطابور. وتذكرت فى الجانب السياسى أنه منذ تولى الزعيم رئاسة الجمهورية فى يونيه 1956 صار اختيار الرئيس يتم باستفتاء شعبى وليس بالانتخاب، ولم يتعرض دستور سنة 1964 لهذا الموضوع. وصدر دستور جديد سنة 1971 وقت الرئيس السادات يقصر فترة حكم الرئيس على مدتين، كل منهما ست سنوات، وفى منتصف المدة الثانية بدأت حركة لتعديل الدستور لجعل انتخاب الرئيس (لمدد) أخرى وليس (لمدة واحدة) مماثلة. وعدل الدستور بالفعل، لكن الرئيس السادات لم يمهله القدر فاغتيل قبل نهاية المدة الثانية. وأصبح الرئيس مبارك هو المستفيد الوحيد من كل تعديل للبقاء فى الحكم أدخله أى من الرئيسين عبد الناصر أو السادات، فبقى فى الحكم لثلاثين عاما. دار فى خاطرى على الجانب الاقتصادى أن مصر عاشت تجارب تنمية اقتصادية عديدة باهرة. من نظام الدولة المحتكرة لكل أدوات الإنتاج وجعل الناس كلهم أجراء (محمد على باشا)، إلى نظام الاقتصاد الحر المتسيب فى عهد إسماعيل باشا الذى أتاح المجال للأجانب بأكثر من المصريين. ثم نهضت الوطنية الاقتصادية مع طلعت باشا حرب، لتؤسس قاعدة وطنية للاقتصاد يتملكها المصريون. واستمر ذلك طوال حكم الملك فاروق، وحتى السنوات العشر الأولى من ثورة يوليو 1952. التى أقامت السد العالى وأممت قناة السويس وتبنت مشروع ال»سبعمائة مصنع»، وترجمة الألف كتاب، وأتاحت التعليم لكل الطبقات. واعتبارا من نكسة انفصال سوريا عن مصر سنة 1961، جعلنا الانفعال لا ندرك أن ملكية رأس المال ليست المشكلة الأكثر إلحاحا، وإنما الأهم هو إدارة رأس المال وموارد وممتلكات الدولة إدارة رشيدة. فرواد نهضة الاقتصاد المصرى الحديث أحمد باشا عبود وأحمد الطرابيشى، وعبد اللطيف أبو رجيلة، وعثمان أحمد عثمان، وسيد ياسين، وأحمد الطويل، والفنانون محمد فوزى وأنور وجدى، ومئات غيرهم، صودرت أملاكهم فخسرنا أكثر مما خسروا، فقد خسروا المال، وخسرنا الرجال والإدارة الجيدة للأملاك، وأغلبهم بدأ من جديد وكون بكفاءته ثروات فى الخارج بأضعاف ما صادرناه من أموالهم فى الداخل. والدرس هو أنه لا توجد فى الأنظمة السياسية أو الاقتصادية والاجتماعية نظم كاملة الأوصاف، أو رجال يحلقون بأجنحة الملائكة. ولكن أنجح التجارب لم تكن بالضرورة ابنة اليسار الذى ينتمى لفكر الاقتصاد الذى تديره الدولة، وليس بالضرورة أن تميل الممارسة لليمين بالكامل ولاقتصاد السوق بكل تسيباته، وإنما التجارب الناجحة هى تلك التى تقدمها النخبة وتثق بها غالبية الناس وتتبنى مشروعا للبناء الوطنى يقوم على رجال مؤمنين بما يعملون، وبأن الوطن أفضل بكثير مما نصوره لأنفسنا، لكنه يستحق أكثر وأفضل بمراحل مما نحققه. تدور كل هذه الخواطر فى ذهنى وأذهان كل من يسعى لرفعة شأن هذا البلد العزيز، ولهذا أجد أن الوطنية المصرية مسئولة من الآن عن التعامل مع خيارات وطنية أساسية يتعين الوصول لوفاق وطنى حولها، تتبناه الأغلبية وتجيب عن الأسئلة التالية: هل نحن قادرون على وضع الدستور والقوانين والتشريعات واحترامها؟ أم سنظل نغير كل بضع سنوات من تشريعاتنا وفقا للظروف وللمزاج العام أو ضرورة المواقف؟! هل فى نيتنا أن نحترم المال العام، وأيضا الخاص ونتوقف عن إلقاء مشكلاتنا على بعضنا بعضا دون مراعاة للعدالة الاجتماعية من جهة، ولأن الله طلب منا حقا معلوما «فى أموالنا» للسائل والمحروم، من جهة أخرى؟! هل نستطيع أن نقيم نظاما للعدالة يأخذ للناس حقوقهم دون إبطاء وأن نقيم نظما للتحكيم تكون فيها للمحكمين حصانة تحميهم من المساءلة غير المنطقية؟ هل سنعيش يوما تفرز لنا فيه الحياة السياسية والاقتصادية رجالا يعيشون بيننا وينعمون بصفة المواطنة المقدرة والمحترمة، سواء كان منهم رئيس سابق، أو مسئول أتم دوره بما يرضى الله والوطن؟!