عادة ما تثير أية تغييرات اقتصادية التكهنات بشأن أسبابها وما إذا كانت عارضة أو مستدامة، ويعد انخفاض معدلات نمو التجارة العالمية أحد أبرز التغييرات المثيرة للجدل هذaه الأيام مع اختلاف الآراء بخصوص ما إذا كانت ظاهرة مؤقته أم تحولا هيكلىا فى الاقتصاد العالمى، وللبعض هى بمثابة كوب نصفه ممتلئ .بحسب تحليل لصحيفة الفاينانشال تايمز قصة تراجع التجارة العالمية تتجاوز التفسيرات التقليدية إذ إنه رجح حدوث تحول مستدام فى مقومات العولمة التى اعتاد عليها العالم طوال العقود الماضية. وتكشف الأرقام الحديثة عن تراجع مثير للقلق فى النمو بالنسبة للموانئ العالمية، مثل ميناءى هامبورج وسنغافورة الاذىن تمتعا بازدهار لافت خلال السنوات الأولى من الألفية.وعلى سبيل المثال، خلال شهر يناير سجلت موانئ أمريكية انخفاضا فى نشاطها بنسبة 5.1٪ مقارنة بنفس الفترة من العام الماضى، وهو ما فسره البعض بارتفاع الدولار الذى يضر بمصالح المصدرين الامريكيين. لكن القصة أكبر من ذلك، حيث سجلت التجارة العالمية أكبر انخفاض لها فى قيمة السلع المتداولة حول العالم منذ عام 2009 عندما بلغت تداعيات الأزمة المالية ذروتها. واستنادا لدورة الاقتصاد العالمى الحالية يتوقع محللون تكرار سيناريو الهبوط هذا العام لتكون 2016 هى السنة الخمسة على التوالى التى تسجل فيها معدلات التجارة العالمية نموا ضعيفا، وعلى نحو غير مسبوق منذ السبعينيات. ومعظم هذا الهبوط يرجع إلى التباطؤ الاقتصادى فى الصين، بالإضافة إلى التأثير السلبى لأفول نجم السلع الرئيسية على الأسواق الناشئة، وبالطبع يلعب التعافى الهش فى اوروبا دورا مهما فى قصة تراجع التجارة العالمية. بالرغم من أهمية تلك العوامل فى تفسير ضعف التجارة العالمية إلا أن هناك أسبابا أخرى فى رأى اقتصاديين، وهو ما يلاقى تأييدا متزايدا يوما بعد يوم. ويقول اقتصاديون إن تباطؤ نمو التجارة العالمية ليس أمرا عارضا لكنه مؤشر على صعود قوى ستحول مسار العولمة لعشرات السنين القادمة. وأبرز تلك التحولات الكبيرة هو سياسة الصين الجديدة لإعادة توازن اقتصادها وتحويله من اقتصاد صناعى يعتمد بالدرجة الأولى على التصدير إلى التركيز على الاستهلاك المحلى. ويشير محللون إلى تحول آخر وهو ارتفاع حجم تدفقات البيانات والذى يعد مؤشرا على صعود عصر الاقتصاد الرقمى للقرن الحادى والعشرين ليستبدل النظام القديم. ويشير اقتصاديون فى معهد ماكينزى إلى زيادة معدلات الاتمتة والتكنولوجيات الصناعية الجديدة، مثل الطباعة ثلاثية الأبعاد، وجميعها تعزز توقعات بتسارع وتيرة التغيير وتؤثر سلبا على مستقبل تجارة السلع العالمية. وهنا توضح سوزان لاند من معهد ماكينزى أن العولمة لم تعد تتجسد فى سفن محملة بشاحنات بضائع تجوب العالم من أماكن إنتاجها إلى المستهلكين، وتقول إن عولمة المستقبل ذات طابع رقمى. - صعود العصر الرقمى بالرغم من تباطؤ تدفق السلع والخدمات والتمويل-من مستوى الذروة عند 53٪ من الناتج العالمى فى عام 2007 إلى 39٪ فى 2014 - إلا أن العالم قد شهد قفزة فى تدفق البيانات عبر الحدود، فتضاعف حجم البيانات الرقمية المتداولة عبر أنحاء العالم بين عامى 2013 و 2015 إلى 290 تيرابايت فى الثانية، وذلك وفقا لتقديرات ماكينزى، مع نمو بواقع الثلث خلال العام الجارى ما يعنى أنه بحلول نهاية 2016 سترسل الشركات والأفراد من البيانات ما يزيد عما تم إرساله فى عام 2008 بعشرين ضعفا. وكما يقول تقرير حديث للمعهد، التغيير يتجاوز هوس التليفونات الذكية والتطبيقات المختلفة مثل فيس بوك وكاندى كراش التى تنشر ملحمة البيانات الرقمية. وشركات كبرى مثل جنرال اليكتريك، التى تستخدم طابعات ثلاثية الأبعاد لإنتاج أجزاء من محركات الطائرات، تخطط لزيادة كبيرة فى استخدام تلك التكنولوجيا بحلول عام 2020 . وتكنولوجيا مثل الطباعة ثلاثية الأبعاد سوف تتيح قريبا للشركات إمكانية استغلال أفضل لطاقتها بما يوفر لها مكونات بواسطة مجموعة من الأوامر الرقمية. وهناك بالفعل مؤشرات على القيمة الاقتصادية للعولمة فى ثوبها الجديد الرقمى، فوفقا لتقديرات معهد ماكينزى، تدفق السلع والخدمات والتمويل عبر الحدود فى عام 2014 أضاف نحو 7.8 تريليون دولار إلى الاقتصاد العالمى، منها 2.8 تريليون كانت القيمة المضافة لتدفق البيانات، وهو ما يزيد قليلا عن مساهمة التجارة العالمية فى السلع والتى بلغت 2.7 تريليون دولار. هذا الاقتصاد الرقمى صاحبه انخفاض فى سلاسل التوريد العالمية، وهى الظاهرة التى حذر منها صندوق النقد والبنك الدوليان فى عام 2014 . ففى تقرير لهما قالا إن نصف التراجع الذى تعانى منه التجارة العالمية منذ الأزمة المالية فى 2008 يرجع إلى أسباب “هيكلية”، وأبرزها تحركات الصين للاستحواذ على سلاسل توريد بأكملها، وهو ما يعنى اتجاه المصانع الصينية لإنتاج العديد من السلع الوسيطة التى كانت تستوردها من قبل. ويقول خبراء ماكينزى إن تلك التحركات وأخرى مماثلة فى الولاياتالمتحدة وأماكن أخرى كان لها تأثير عالمى مع اتجاه الشركات الصناعية إلى نقل نشاط الإنتاج بالقرب من مراكزها الرئيسية أو حيث يوجد عملاؤها فنقل خطوط إنتاج إلى أماكن الطلب القوى يقلل حجم التجارة العالمية الأمر تؤكده بيانات رسمية، فالاستهلاك العالمى للعديد من السلع المصنعة مثل السيارات والأدوية يفوق نمو التجارة العالمية لتلك السلع فى السنوات الأخيرة. من ناحية أخرى، يرى محللون أن التجارة العالمية فقدت اثنين من أهم محركات نموها وهما الاستثمارات المباشرة والمستهلكون، وذلك مع ثبات حجم استثمارات الشركات الصناعية فى مجالات مثل آلات التصنيع، ومع استمرار ضعف ثقة المستهلكين بعد مرورما يقرب من ثمانية أعوام على الأزمة العالمية. - نصف الكوب المليئ الجدير بالذكر هنا أنه فى ظل تباطؤ نمو التجارة العالمية فى السنوات الأخيرة قد اتجهت الاقتصادات الكبرى فى العالم إلى الانخراط فى جولة جديدة من صفقات التجارة الحرة. وخلال العام الماضى توصلت كل من الولاياتالمتحدة واليابان وعشر دول أخرى للاتفاق بخصوص شراكة عبر المحيط الهادئ، ويجري الإعداد حاليا لشراكة جديدة بين امريكا والاتحاد الاوروبي وجنوب شرق آسيا. غير أن تلك الجهود لن تتحقق ثمارها الاقتصادية بالنسبة للتجارة العالمية قبل سنوات بعدما تتجاوز العقبات التشريعية لاسيما فى الولاياتالمتحدة. يبدى البعض تفاؤله بقدرة “طريق الحرير الجديد” على تعويض الجزء الخاص بالصين فيما يتعلق بتباطؤ التجارة العالمية، وهناك أيضا من يرى فرصا عظيمة لاستبدال عباءة الصين وإعطاء دفعة قوية للجولة القادمة من نمو التجارة العالمية، تلك الفرص موجودة فى اقتصادات افريقيا وامريكا اللاتينية. وسواء كان الأمل فى ظهورمصادر جديدة للطلب الخارجي على السلع والخدمات أو كمراكز صاعدة للتصدير، فهى عوامل قد تساهم فى إحياء العولمة مرة أخرى. في الوقت نفسه، هذا سيكون بداية عصر صعود قوى تجارية جديدة بعدما هيمنت مجموعة- لا يتجاوز عددها اثنتى عشرة دولة- على معظم تدفقات السلع والخدمات ورؤوس الأموال فى العالم، ليس هذا فحسب بل والبيانات أيضا. مابين تفاؤل قلة من الاقتصاديين بعودة التجارة العالمية إلى سابق عهدها وبين الواقع الذى لا مفر منه على المدي القريب، يظل مستقبل العولمة رهينة الأمل فى اتفاقيات التجارة الحرة وتنفيذها رأى العين.