ادت فرنسا برئاسة ايمانويل ماكرون دورا رياديا في محاولة درء خطر ازمة مستجدة في لبنان عقب اعلان رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري استقالته بشكل مفاجئ من السعودية عبر شاشة التلفزيون. ووصل الحريري الى باريس السبت تلبية لدعوة ماكرون، بعد ان كان كرر نفيه لشائعات احتجازه في السعودية منذ اعلان استقالته في 4 نوفمبر. دعوة ماكرون التي تشكل امتدادا لتقليد فرنسي قديم تمثل بأكثر من مبادرة تجاه لبنان في مراحل تاريخية مختلفة، ترجمت بوصول الحريري مع اسرته الى باريس، واجراء الرجلين محادثات قبل انضمام زوجتيهما وابن الحريري البكر اليهما على مأدبة الغداء، حيث اعلن الحريري في ختام اللقاء انه سيتوجه الى بيروت للمشاركة في احتفالات الاستقلال. وفي ما يلي الدور الذي ادته فرنسا لنزع فتيل الازمة. ترتبط فرنساولبنان بعلاقات وثيقة تعود إلى القرن السادس عشر حين تم التوصل إلى اتفاق بين الملك فرنسوا الأول والامبراطور العثماني سليمان القانوني وضع مسيحيي الشرق تحت حماية فرنسا. ومع انهيار الامبراطورية العثمانية، أصبحت فرنسا عام 1920 دولة الانتداب في لبنان، فأعلنت قيام دولة لبنان الكبير وأعادت ترسيم حدوده مع سوريا، قبل ان تعترف باستقلاله عام 1943. ومنذ ذلك التاريخ، سعت فرنسا على الدوام لتجعل من لبنان، الدولة المتعددة الأديان التي تعتمد نظام حكم طائفيا، نقطة ارتكاز لنفوذها في الشرق الأوسط. وقال خبير الشرق الاوسط في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية دوني بوشار "ما يمنحنا قوة في الملف اللبناني هو أننا نتكلم مع جميع الأطراف". وأضاف "فرنسا تربطها علاقة مميزة في لبنان مع الطوائف الثلاث، بما في ذلك تواصلها مع الشيعة" الى جانب الموارنة والسنة، وهذه المبادرة الفرنسية الجديدة تتزامن مع "سياسة أمريكية تثير المخاوف، وضمور بريطانيا بسبب بريكست وتنحي ألمانيا جانبا إلى حد ما بسبب سياستها الداخلية أيضا". الجواب كلا. فماكرون المصرفي السابق يسعى الى اثبات وجوده على الساحة الدولية منذ أن أصبح رئيسا في مايو. فقد توجه الرئيس الفرنسي الاسبوع الماضي الى الرياض للقاء ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان قبل ان يعود ويوفد وزير خارجيته جان ايف لودريان الاربعاء لاجراء مزيد من المحادثات. ويحاول ماكرون ملء فراغ احدثه غياب القوى الغربية عن ملفات الشرق الاوسط: فقد قلصت الولاياتالمتحدة برئاسة دوتالد ترامب دور هذه القوى في المنطقة، فيما تجد بريطانيا نفسها مكبلة في ملف الخروج من الاتحاد الاوروبي. نتج عن هذا الغياب ما يشبه الزوبعة السياسية التي اطلقها ماكرون والتي حققت نجاحات بدرجات متفاوتة، من جهود ايجاد حل في ليبيا الى حملة للمحافظة على الاتفاق النووي الايراني. اعلن الرئيس اللبناني ميشال عون انه تلقى صباح السبت اتصالاً هاتفياً من الرئيس الحريري، أعلمه فيه أنه "سيحضر الى لبنان للمشاركة في الاحتفال بعيد الاستقلال" في 22 نوفمبر. وكان عون اتهم السعودية باحتجاز رئيس الحكومة المستقيل، رغم تكرار الأخير أنه بخير ونفيه والرياض ان يكون محتجزا. وقال عون ان هذا الامر (الاحتجاز) يشكل "عملا عدائيا ضد لبنان لا سيما أن رئيس الحكومة يتمتع بحصانة دبلوماسية وفق ما تنص عليه اتفاقية فيينا" الراعية للعلاقات الدبلوماسية بين الدول. وقال عون ان توجه الحريري الى فرنسا بمثابة "فتح باب الحل" للازمة الحادة. وكتب في تغريدة "أنتظر عودة الرئيس الحريري من باريس لنقرر الخطوة التالية بموضوع الحكومة". واعلنت صحيفة لوريان لوجور اللبنانية التي تصدر بالفرنسية ان فرنسا "حققت انجازا غير متوقع بدعوتها الحريري" لمغادرة الرياض، معتبرة ان ذلك ادى الى "تخفيف حدة التوتر". تعود هذه العلاقات إلى مطلع الثمانينات، حين التقى جاك شيراك في وقت كان رئيسا لبلدية باريس رجل أعمال لبنانيا حقق ثروته في السعودية، هو رفيق الحريري والد سعد الحريري. نشأت بين الرجلين صداقة متينة وكثفت مجموعة رفيق الحريري الاستثمارات والصفقات في فرنسا. واتخذت شركة "أوجيه إنترناشونال" المتفرعة عن "سعودي أوجيه"، الشركة الأم العملاقة التي كان يملكها رفيق الحريري، مقرا لها في الضاحية الباريسية. واغتنم عشرات الموظفين الفرنسيين السابقين في "سعودي أوجيه" زيارة الحريري لاعادة تحريك المطالبة بمتأخرات يقولون إنها تبلغ نحو عشرين مليون يورو، علما أن المجموعة التي يملك الحصة الأكبر منها أعلنت إفلاسها. وترسخت العلاقات أكثر حين أصبح رفيق الحريري رئيسا للحكومة اللبنانية في 1992 لأول مرة، وانتخب جاك شيراك رئيسا للجمهورية عام 1995. وشيراك هو الرئيس الغربي الوحيد الذي حضر تشييع رفيق الحريري بعد اغتياله في اعتداء استهدف موكبه في 14 فبراير 2005 في وسط بيروت، وقد وصفه بأنه من طينة شارل ديجول. وبعد ذلك، استقبل بانتظام سعد الحريري في قصر الإليزيه. وعند انتهاء ولاية شيراك عام 2007، وضعت عائلة الحريري في تصرفه شقة فخمة مساحتها 180 مترا مربعا في باريس أقام فيها لأكثر من ثماني سنوات. سيفتح قدوم رئيس الوزراء اللبناني المستقيل إلى باريس المجال امام إيجاد تسوية للأزمة السياسية التي أحاطت أسباب استقالته وظروف بقائه في السعودية بعد الاستقالة. وقد حصل ماكرون على تنويه من رئيس الوزراء السابق اليميني آلان جوبيه الذي أشاد بتدخله الشخصي في الأزمة اللبنانية، معتبرا أنه "من الجيد أن يقوم الرئيس بدور وساطة". وعنونت صحيفة "لوريان لوجور" اللبنانية الناطقة باللغة الفرنسية الخميس "باريس في دور اليد الإلهية"، مضيفة "لا بد أن يأتي تحرك فرنسا الحثيث بنتيجة". وفي ظل اختبار القوة الشديد الجاري في المنطقة بين السعودية وإيران، ومخاطر أن يعمد الخصمان الإقليميان إلى التواجه في لبنان حيث لكل منهما أطراف حليفة، تحرص باريس على الحفاظ على علاقات جيدة مع البلدين وإبقاء قنوات التواصل مفتوحة مع كليهما.