التى صدر قرار إنشائها الأسبوع الماضى تمثل خطوة متأخرة على طريق إدخال النظام السياسى والاقتصادى والإدارى فى بلادنا فى منظومة الحوكمة الشاملة التى تزداد رسوخا فى دول العالم بعد ما أثبتت الأحداث أهمية الحوكمة فى تحسين الأداء وضبطه فى مختلف المجالات ونشر قيم الشفافية ومبادئها فى المجتمع. للحوكمة Governance تعريفات متعددة ويمكن تلخيصها فى أنها مجموعة القواعد والأسس والضوابط والمواثيق التى تحكم أى كيان فى إطار الدستور والقانون، وهى بذلك تعد أسلوبا لإصلاح الكيانات والسياسات وفقا لمبادئ الحكم الرشيد والسلوك الإنسانى والأخلاقى القويم من أجل الحفاظ على حقوق المواطن وكرامته. أما فيما يتعلق بالحوكمة على مستوى الشركات والأعمال فهى تمثل مجموعة القوانين والنظم والقرارات التى تهدف إلى تحقيق الجودة والتميز فى الأداء عن طريق اختيار الأساليب المناسبة والفعالة لتحقيق خطط وأهداف الشركة أو المؤسسة. وبذلك فإن الحوكمة تعنى تطبيق نظم تعمل على التحكم فى العلاقات بين الأطراف الأساسية التى تؤثر فى الأداء، كما تشمل كذلك وسائل تقوية المؤسسة على المدى البعيد وتحديد المسئوليات بين مختلف قيادات المؤسسة والإدارات المنضوية تحتها، وهى بهذا المفهوم تعد أداة فعالة لخلق التوازن بين مالكى الشركة وحملة الأسهم من جهة وبين مجلس الإدارة والمديرين التنفيذيين من جهة ثانية. مفهوم الحوكمة وبرامجها ظهر فى ثمانينيات القرن الماضى إلا أنها اكتسبت زخما وانتشارا عقب أزمة انهيار شركة انرون العملاقة للطاقة وعدد من الشركات الأخرى فى بداية الألفية بسبب التلاعب فى الحسابات لتغطية خسائر وتضخيم الأرباح، وهى الأزمة التى هزت أسواق المال الدولية عام 2002 وكان من تداعياتها شطب أحد أشهر شركات المحاسبة فى العالم «أرثر أندرسون» وأدت إلى مراجعة وتغيير أنظمة المحاسبة والرقابة لكى تصبح أكثر دقة وأكثر شفافية، وعقب الأزمة المالية العالمية فى 2008 أصبحت الحوكمة فى مجال الشركات والأعمال عنصرا أساسيا يتعين اتباعها، وأنشئت كيانات حكومية أوكلت إليها مراقبة التزام الشركات بمعايير الحوكمة بجانب الأجهزة الرقابية التقليدية. فى مصر كانت البنوك والشركات أسبق من الحكومة فى إدخال مفاهيم الحوكمة تباعا، حيث تفاوت الاهتمام بالأمر بين تخصيص مجموعة موظفين لأنشطة الحوكمة أو إنشاء أقسام بل وإدارات كاملة تتولى مسئولية إدخال مفاهيم الحوكمة فى مختلف أنشطة المؤسسة وبعد ذلك مراقبة مدى الالتزام بتطبيقها، ومع ذلك ينبغى الاعتراف بأن عددا لا يستهان بها من الشركات مازالت بعيدة عن الاهتمام بأعمال مفاهيم الحوكمة، وعلى الجانب العملى فإن قليلا من مراكز التدريب يطرح دورات لنقل المعرفة بمفاهيم العولمة، وفى كل الأحوال فإنه لا توجد جامعة واحدة فى بلادنا تقوم بتدريس مقرر عن الحوكمة لطلابها. وباستثناء المركز المصرى للحوكمة العالمية والتنمية الذى أنشئ قبل عامين فإنه لا توجد جهة حكومية أو أهلية تصدت لنشر مفاهيم العولمة السياسية والتنموية فى مصر قبل إنشاء اللجنة الوطنية للحوكمة كلجنة حكومية الأسبوع الماضى. حتى هذه اللجنة التى أسند رئاستها لسفير من الخارجية بحكم تشكيلها الذى أعلنه جاءت خالية من الخبراء فى السياسة والاقتصاد المعنيين أكثر من غيرهم بنشر وتطبيق مفاهيم الحوكمة والشفافية فى أجهزة الدولة، وربما يحتاج الأمر مستقبلا إلى إنشاء كيان أكبر وأكثر تخصصا لتحقيق هذا الهدف يكون أكثر ارتباطا بمجلس الوزراء والجهات المعنية بتطوير العمل الإدارى والاقتصادى، وقد يصح بعد ذلك مد تطبيق معايير الحوكمة على مختلف المؤسسات السياسية وفى مقدمتها الأحزاب السياسية والبرلمان لإضفاء مزيد من الشفافية والاطمئنان إلى سلامة ممارسات هذه المؤسسات بما يعمق الثقة بها. نشر ثقافة الحوكمة يمثل عملا إصلاحيا لا يقل فى أهميته عن برامج الإصلاح المالى والنقدى التى نمر بها ويمتد أثره من إصلاح الحياة السياسية وتحسين أداء الاقتصاد الكلى مرورا بتحسين مستوى مختلف الخدمات التى تقدم للمواطنين.. حتى الأنشطة الرياضية والأندية الاجتماعية وعمليات الإنتاج الفنى والثقافى سوف تستفيد بلاشك من إعمال قواعد الحوكمة فى أنشطتها.. وربما تسهم فى إزالة أو الحد من ملاحظات أو متاعب الناس مع كل هذه المجالات.