ربما يكون الحكم التاريخى الذى صدر بالقضاء على التمييز فى الوظائف هو أول خطوات العدالة الاجتماعية التى قامت من أجلها ثورتا 25 يناير و30 يونية ، رغم أن الحكم فردى يخص قضية بعينها إلا أنه يمكن الاستناد إليه فى دعوات قضائية أخرى تمثل تمييزا فى الوظائف العامة ، وقد تسبب الحكم فى إحداث عاصفة غضب من أصحاب المصالح لدرجة أن مصادر قضائية اعترضت عليه وكأن القضاء ينتقد القضاء وكأن العدالة لها وجوه كثيرة ، وجاء تعقيب البعض ممن أخذوا طريق الاعتراض أن بعض المهن لا يصلح فيها أبناء الفقراء مثل القضاء والسلك الدبلومسى وغيرهما ، حتى وإن كان ابن الفقير مستوفيا شروط الوظيفة وكأن فقره عار عليه وليس عارا على من يرمونه بهذه التهمة لأنه رغم الفقر استطاع أن ينافس أبناؤهم فى المناصب الكبرى. انتصر المستشار الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجى نائب رئيس مجلس الدولة ورئيس الدائرة الأولى بالقضاء الإدارى بالأسكندرية للعدل ، انتصر لابن الفلاح على حساب ابن مسئول كبير ، ولم يعبأ برد الفعل المتوقع من المستفدين من بقاء الأحوال على ما هى عليه ، ففى القطاع المظلم من الليل جاء الحكم كضوء النهار . جريمة وفق المفهوم الدستورى الحديث قالت المحكمة إنها بسبب حرصها على تطبيق معيار الكفاءة باعتباره المقياس الوحيد للعدالة أصدرت هذا الحكم وأسقطت نظرية الجدارة الاجتماعية فى الالتحاق بالتعليم وتولى الأبناء لوظائف الآباء وحظرت المحكمة على كبار المسئولين المحاباة فى مجال الالتحاق بالتعليم واعتبرت أن توريث الأبناء فى وظائف آبائهم وفقا للمفهوم الدستورى الحديث جريمة جنائية للتمييز وعدوان على العدالة الاجتماعية . وإذا تصفحنا التاريخ نجد أن توريث المهن بدأ بمهنة الطب حيث سجلت أعلى معدلات التوريث نظرا لحرص الآباء على أن يرث أبناؤهم العيادات والمستشفيات التى يملكونها فضلا عن أن مرور الأطباء الأبناء فى أقسام كليات الطب كان المرور الأكثر سهولة نظرا لوجود آبائهم كأساتذة فى الكلية ، وكما يقول الدكتور عبد السميع الدفرواى عضو الجمعية الأمريكية للسكر وزميل جامعة هارفارد إن مهنة الطب من المهن التى يصعب توريثها ولا يمكن نقل الخبرة المتراكمة للأبناء من أفراد الأسرة الواحدة لأن العمل بالمجال الطبى يتطلب تفوقا واجتهادا لإظهار الكفاءة فى العمل ولولا هذه الكفاءة لما استطاع الطبيب الاستمرار وبناء اسم فى المهنة ، وقال إن أى طبيب لا يستطيع الاعتماد فقط على تاريخ عائلته ولكن يمكن لهذه العناصر ان تختصر من وقته وجهده ،ولكنه لن يصبح طبيبا إلا بالدراسة والعمل الجاد. الدكتور الدفرواى لم ينف وجود بعض المحاباة فى توريث المناصب الجامعية لأبنائهم من خلال منح الأبناء درجات كبيرة حتى يحصلوا على التفوق ويحصل على الدرجة العلمية التى تؤهلهم للحصول على الدرجة العلمية التى تصل بهم لمنصب معيد ، وأشار إلى أن التوريث داخل الحرم الجامعى والتدريس يضر بمهنة الطب وينافى مبدأ تكافؤ الفرص بين الطالب ابن الدكتور وباقى الطلبة وهذا ينافى أخلاقيات المهنة ، وأكد الدكتور الدفرواى أن الكفاءة ترقى بأى مهنة والمحاباة تجعل المستوى العام للعمل متميزا . العائلية تحكم المصالح الحكومية هناك أيضا مهن أخرى ظهر فيها التوريث جليا مثل مهنة المحاسبة حيث ورث أبناء أصحاب المكاتب الكبيرة آباءهم ليستمر عمل المكاتب وإذا كانت المحاسبة مهنة خاصة فإن الاحتكار فى المهن استشرى ليشمل كل أنواع المهن الخاصة والعامة إذ ورث أبناء الصحفيين مهنة الصحافة خاصة فى الصحافة القومية ، وورث موظفو الحكومة آباءهم تحت لافتة أبناء العاملين التى جعلت المصالح الحكومية عائلات ، كما امتدت يد التوريث لتطول مهنا تتطلب الموهبة أساسا مثل الغناء والتمثيل، حيث ورث ابناء الممثلين المهنة ليفرضوا أنفسهم علينا ومنهم أنصاف المواهب ، احتلت مهنة القضاء والشرطة مرتبة مرتفعة فى توريث المهن بهدف بقاء القاضى نزيها نظرا لتربيته فى بيت قاض وإذا كانت هذه العلة فتحت الباب أمام المحاباة وابتلاع أحلام العامة فى دخول السلك القضائى. المستشار جميل قلدس رئيس محكمة الاستنئاف الأسبق يقول إن العدل هو أساس الحكم موضحا أن الحكم الذى صدر بعدم التمييز فى الوظائف يعتبر انتصارا للعدالة الاجتماعية ولعدم التمييز بين أبناء الوطن الواحد موضحا ان الكفاءة هى العنصر الحاكم فى كل الوظائف لكن المناصب التى تخص القضاء والنيابة والشرطة يلزم لها حسن سير الأهل وليس وضعهم الاجتماعى نظرا لما لهذه الوظائف من حساسية فى المجتمع ، وأضاف ان وجود شروط لمقتضيات المهنة لا يعيب المهنة ولا يفقدها الكفاءة كعنصر أهم ، وقال المستشار «إن كل الوظائف لابد أن يحكمها معيار الكفاءة أولا والتفوق أيضا». عصام الإسلامبولى المحامى بالنقض أكد أن الحكم أرسى مبدأ من مبادىء العدالة التى أقرها الدستور المصرى بعد ثورتين ، حيث يتفق الحكم مع نص المادة الحادية عشرة من الدستور الى تنص على ان تولى المناصب يكون بالعدل والكفاءة والجودة ، موضحا أن بعض المهن أصبحت تورث رغم أن ثورة يناير قامت ضد التوريث فى الحكم وكل المصريين ضد المبدأ ، مصر ليست ملكا لفئة معينة يتوراثون المهن فيها وأضاف ان الحكم يرسخ للقاعدة العامة التى يمكن الاستشهاد بها فى أى وقت ضد التميز . يرى أحمد أبوعبدالله المحامى بالنقض وعضوالمكتب السياسى بحزب الإصلاح والتنمية أن الحكم قضى على المعادلة الصعبة التى أصبحت قاعدة فى مصر وأرسى مبدأ أخلاقيا وقانونيا معا ويمكن لأى مواطن الاستشهاد به للحصول على حقه واوضح ابو عبدالله انه على القضاة ان يتذكروا أنه لا تعليق على أحكام القضاء . من جانبها أكدت الدكتورة حنان النجار أستاذة الإدارة بجامعة عين شمس أن العمل الإدراى إذا لم يخضع للكفاءة كمعيار أساسى يكون مخالفا لأحكام الدستور الذى يقضى بالمساواة والعدل ولكن الحقيقة تخالف ذلك حيث فتحت أبواب كثيرة للتوريث خلال الفترة الماضية منها ابناء العاملين وغيرها مما جعل المجتمع فى حالة احتقان من عدم تكافؤ الفرص وأصبحت الكفاءات التى يمكنها العمل والعطاء تهرب للخارج ومن لا يستطيع السفر يبقى هنا يعانى ويعمل بمهن لا تمت لشهادته بصلة ، وأضافت أن الحكم الصادر بعدم التميز هو بداية لتطبيق نصوص الدستور دون محاباة أو مجاملة موضحة أن تكاثر العائلات فى المهن جعل بيئة العمل تنقصها الكفاءة لأن الابن يجد الوظيفة جاهزة حتى دون رغبة منه مجرد انها فرصة عمل ، وأشارت الى ترهل الجهاز الحكومى فى الدولة وغياب العناصر المتميزة وغياب الصف الثانى وطالبت بأن يكون هذا الحكم بوابة للاختيار الصحيح دون تمييز. الحيثيات تنطق قضت المحكمة برئاسة المستشار الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجى وعضوية المستشارين خالد شحاتة ووائل المغاورى نائبى رئيس مجلس الدولة بوقف تنفيذ قرار الجهة الإدارية المطعون فيه فيما تضمنه من رفض قبول قيد الطالب أحمد نجل المواطن الفلاح محمد محمود حسين بالمدرسة الثانوية الفنية التابعة لشركة مياه الشرب والصرف الصحى بالبحيرة لتفوقه فى مجموع درجاته على الطالب على كامل شلضم نجل مسئول بالشركة وما يترتب على ذلك من آثار أخصها تمكين نجل الأول من أداء الامتحانات النظرية في العام الدراسي الحالى ، وتمكينه من الامتحانات العملية له فى الدور الثانى فى ذات العام وألزمت الإدارة المصروفات وأمرت بتنفيذ الحكم بمسودته دون إعلان ، قال المدعى ان المدرسة الثانوية الفنية التابعة لشركة مياه الشرب الخاضعة لإشراف وزارة التربية والتعليم حددت الحد الأدنى للقبول بها من الحاصلين على شهادة الإعدادية بمحافظة البحيرة بمجموع 282 درجة من 300 وانه فوجئ باستثناء قبول ابن مسئول بالشركة مجموعه 252 درجة بناء على خطاب رئيس مجلس الادارة والعضو المنتدب للشركة بمطروح لمثيله بالبحيرة باستثنائه وحجز وظيفة له بعد التخرج وأضاف ان نجله متفوق على ابن المسئول لحصوله على 259 درجة الا ان المدرسة رفضت قبوله بسبب انه ابن فلاح فقير ولا يعمل بالشركة ؟ قالت المحكمة إن المشرع الدستورى ألزم الدولة بتحقيق تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين ، دون تمييز والمواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الإجتماعى، أو الانتماء السياسى أو الجغرافى، أو لأى سبب آخر،واضافت المحكمة ان المشرع الدستورى جعل التمييز والحض على الكراهية جريمة يعاقب عليها القانون ، وألزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على كل أشكال التمييز، وعهد الدستور الى القانون إنشاء مفوضية مستقلة لهذا الغرض غلقا للباب امام اى فساد او استبداد وعلاجا لجراح الماضى ورفعا للظلم عن الشعب الذى عانى طويلا ،وهو ما تناشد معه المحكمة الدولة سرعة الانتهاء من انشاء تلك المفوضية للقضاء على كل أشكال التمييز الآثم الذى انتشر فى ربوع الوطن الذى وصل حد التصريح كتابة من مسئول بدرجة رئيس مجلس ادارة والعضو المنتدب لشركة المي اه باستثناء نجل احد العاملين معه من الحد الأدنى للقبول بمدرسة ثانوية فنية تابعة للشركة رغم خضوعها لوزارة التربية والتعليم بل وصل الأمر به إلى حد التصريح لا التلميح بتوريث الوظائف للأبناء وحفظ الوظائف لهم قبل بدء الدراسة ؟ وعلى نحو ما كشفت عنه الدعوى الماثلة فى تحد سافر لمبدأ العدالة الاجتماعية ضد المتفوقين من أبناء البسطاء والفقراء من هذا الوطن تحت عباءة المكانة الاجتماعية للعائلات، رغم أن الدستور جعل الوظائف العامة حقا للمواطنين على أساس الكفاءة ودون محاباة أو وساطة. //////////////// ماذا بعد إقالة وزير العدل بعد72ساعة من صدور الحكم التاريخى الذي انحاز لابن الفلاح ووضع قاعدة قانونية ترسى العدالة في التوظيف خرج وزير العدل السابق المستشار محفوظ صابر بتصريح غير متوافق مجتمعيا فى مقابل حكم يمهد لامكان تطابق الوضع الاجتماعى مع معايير الفوز بوظيفة عامة رفيعة وبل أنه يمكن الاطمئنان إلى عدالة تلك المعايير. أشار الوزير السابق ان ابن عامل النظافة لن يتمكن من الوصول لمهنه القاضى، مما أثار غضب الجميع وظهر هذا جليا في سرعة الرد من الحكومة بإقالة الوزير ولا ينتهي الموقف بإقالة وزير خالف مهنته كوزير للعدل ووضع نفسه في مأزق التمييز والعنصرية ولكن لابد أن تكون هناك معايير واضحة لكل المهن التي علي أساسها يتم الاختيار للوظائف، وتكون هذه المعايير هي الضمانة الحقيقية يستدل به علي صاحب الوظيفة أيا كان مركزه الاجتماعي.