مصر اليوم فى حاجة إلى أن يقوم أصحاب المشروعات بتغيير أنشطتهم من استغلال الأراضى وقصر نشاطهم على مجال الإسكان الترفى إلى القيام بدور حاسم فى توفير الخدمات وتقديمها إلى المجتمع، وخلق فرص العمل. والسؤال هو: كيف نجهّز أجيالنا وأبناءنا لمثل هذه المشروعات؟ الإجابة تكمن فى الابتكار، وأن نعلّم أجيالنا مهارات التفكير الإبداعى ومهارات التحليل والابتكار ومهارات التواصل والتفاعل، وإلا فإننا نخاطر ببلدنا بأن يتأخر شعبنا وتتأخر نهضتنا، أو بكلمة أخرى أن تشيخ بلدنا. خاصة وأن العقود الخمسة الأخيرة شهدت نموا لا سابق له للشركات الجديدة التى ولّدت ثروة هائلة وفرص عمل كثيرة وحفّزت النمو الاقتصادى العالمي، وأحدثت ثورة فى مختلف جوانب الحياة الاجتماعية. وكان للانتشار السريع للاتصالات عن طريق الهاتف المحمول وانتشار شبكة الانترنت تأثير فى التنمية الاقتصادية وفى حياة الملايين من الناس الذين كانوا محرومين من قبل من وسائل اتصال يُعتمد عليها. وبعض البلدان تعزز تنظيم المشروعات باعتباره طريقة للحفاظ على التطور التكنولوجى وتشجيعه، فيما تعزز بلدان أخرى تنظيم المشروعات باعتباره وسيلة للقضاء على الفقر والتخلف. وإذا أرادت حكومتنا أن تكون مبتكرة فلا بد أن تفكر كشركة مبتكرة. وهنا سؤال لابد أن نطرحه على أنفسنا أيضا: ما هو الأهم للحكومة أن تستمر فى الصرف بشكل مكثف على البنية التحتية من شوارع وطرقات وأنفاق وجسور وغيرها؟ أم أن تهتم بالصرف على البنية التحتية غير المرئية من تغيير فى الأنظمة وتطوير فى التعليم والمهارات وبناء للتطبيقات وإجراء الأبحاث والدراسات ودعم الابتكارات؟ فليس خافياً على أحد أن سر تطور دول مثل سنغافورةوماليزيا وكوريا الجنوبية خلال فترة قصيرة هو تأجيل الصرف على البنية التحتية وتركيزها الكبير على تطوير التعليم وبناء مهارات ومعارف شعوبها، أى البنية غير المرئية. بل إن دولة مثل بريطانيا تصرف من ميزانيتها سنويا على البنية التحتية غير المرئية كاستحداث الأنظمة والتدريب والأبحاث والتطوير أكثر مما تصرفه على البنية التحتية المرئية من شوارع وأنفاق ومبانٍ وغيرها. عندما تكون الحكومات مبتكرة فإن بيئة الدولة تكون كلها مبتكرة، وعندما تشجع البيئة على الإبداع والابتكار تنطلق طاقات الناس نحو آفاق جديدة، وتتفتق مواهبهم، ويصبح تحقيق أحلامهم وطموحاتهم ممكنا، وهذا أحد أسرار نجاح الدول التى تشجع شعوبها على الابتكار. وفى العالم الذى نعيش فيه اليوم والذى أصبحت فيه حركة العقول والمواهب والمعلومات مفتوحة كما لم يحدث فى تاريخ البشرية من قبل، أصبحت مدن العالم المختلفة تتنافس لتوفير البيئة الأذكى والأكثر إبداعا لاستقطاب هذه المواهب والاستفادة منها لبناء قوتها وتميّزها وزيادة تنافسيتها. فالحكومة المبتكرة هى حكومة جاذبة للمواهب، فعّالة فى الأداء، متجددة فى الأنظمة والسياسات والخدمات. الحكومة المبتكرة هى القاطرة الأساسية لنهضة شعبها وتقدمه، هى التى تطلق طاقات الشعوب، وترفع من قيمة عقل الإنسان، وتحقق الحكمة الربانية فى أن نكون خلفاء الله فى أرضه. والمتابع للتقارير الدولية الخاصة بالمشروعات الابتكارية ومحاولة تطبيقها على بلدنا سيجد أن مصر يمكن أن تحتل درجة متقدمة فى قائمة المشروعات الابتكارية، لكن للأسف هذه المشروعات تسير فى الاتجاه المعاكس للتنمية. ويرجع ذلك إلى أن أصحاب المشروعات يسيرون فى اتجاه واحد من خلال استغلال الزيادة السكانية دون أن يصاحبها اتساع مكانى متناسب ومتزامن معها. وعندما تكون الأرض هى المورد الرئيسى للثروة فى أيدى أصحاب المصالح المستثمرة، فإنها تكون قطعا العدو الفتاك للتنمية الاقتصادية. ومن ثم اتجهت معظم المشروعات الابتكارية نحو استغلال الأرض وتحويلها إلى استثمارات إسكانية دون الدخول فى باقى الأنشطة الاقتصادية . لقد عرّفت منظمة التعاون والتنمية فى الميدان الاقتصادى أصحاب المشروعات بأنهم «الأشخاص الذين يسعون إلى توليد القيمة من خلال إقامة النشاط الاقتصادى أو توسيعه، وتحديد منتجات أو عمليات أو أسواق جديدة واستغلالها». نحن فى حاجة إلى رؤية وثقافة جديدة لمكافحة الفقر وخلق فرص عمل جديدة، ومصر تملك الكثير من المشروعات الابتكارية لكن ينقصها توجيه أصحاب المشروعات إلى البعد عن استغلال الأرض وحصر المشروعات فى مشروعات إسكانية تعوق التنمية ولا تصب فى صالح الفقراء. علينا الآن أن نركز على «الاقتصاد القائم على المشروعات». والفرصة متاحة الآن لتدعيم هذا التحول، خاصة أن هناك اهتماما كبيرا بالبنية الأساسية المادية الجيدة (مثل الطرقات، والطاقة، والمياه، والنقل، والاتصالات ). وإذا كان بناء الهياكل الأساسية المادية ينطوى على نفقات هائلة، فإن استحداث الهياكل الأساسية غير المادية (السياسات، والإجراءات، والمؤسسات) غالباً ما يكون أكثر صعوبة. ومن ثم هناك حاجة إلى آليات وتدابير مؤسساتية تمكّن أصحاب المشروعات المحتملين من تحويل الأفكار إلى شركات على نحو أكثر سهولة. ويمكن لمؤسسة ما أن تضع مجموعة واحدة من تدابير التوعية وتوليد الأفكار ودعم إنشاء الشركات. ونحن فى أمسِّ الحاجة إلى مثل هذه المؤسسة أو الهيئة لتوجيه المشروعات إلى ما يحقق نهضة بلادنا، فعلى سبيل المثال، استحدث معهد ماساشوسيتس للتكنولوجيا فى عام 1990 مسابقة لفائدة الطلبة الراغبين فى إنشاء شركات . وأدت هذه المسابقة إلى ظهور أكثر من 85 شركة تجاوزت قيمة رأسمالها فى السوق 10 مليارات من الدولارات. وعلى النحو ذاته، ينظم عدد من البلدان الأوروبية سنوياً «كأس أفضل المشروعات» وهو برنامج للابتكار وتنظيم المشروعات لصالح الطلبة الجامعيين. وأنشأ المشاركون فى هذه المسابقة حوالى 300 شركة جديدة فى السويد. ومن الأمثلة على ذلك أيضا قيام «جامعة الأرض «، فى كوستاريكا، بوضع منهج فريد لتعليم تنظيم المشروعات أطلقت عليه اسم «برنامج تنظيم المشروعات». وهو عبارة عن دورة يجرى تنظيمها بشكل دائم والغرض منها هو: تدريب الطلبة على أن يكونوا أصحاب مشروعات يتمتعون بفهم الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للشركة، وتعزيز تنظيم مشروعات لإنتاج المواد الغذائية تكون مربحة اقتصاديا وقابلة للبقاء إيكولوجيا ومقبولة اجتماعيا. وأطلقت كثير من الحكومات برامج الإرشاد من أجل الربط بين أصحاب المشروعات من ذوى التجربة والمنشآت الصاعدة. كما قدمت الحكومات عددا من خدمات تنمية الأعمال التجارية. ومن أجل إذكاء الوعى قامت أغلب الحكومات برعاية الجوائز الممنوحة فى مجال الأعمال التجارية، فيما قام البعض منها بحملات توعية خاصة عبر وسائط الإعلام. وقد دفع نجاح بلدان مثل ماليزيا الكثير من البلدان النامية الأخرى إلى التفكير فى وضع استراتيجيات مشابهة من أجل تعزيز تنظيم المشروعات. فهناك مثلا مجمّع موريشيوس لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات. ويرتبط المجمع بمدارس تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ومدارس الأعمال التجارية البارزة، واستقطب حوالى 60 شركة من شركات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بما فيها شركات أجنبية مشهورة. وهناك حوالى 89 منطقة حول العالم تُطلق على نفسها اسماً يتضمن إما «السيليكون» أو «فالي» لتُنافس وادى السيليكون الأمريكية . وتوفر جميع المجمعات تقريبا مكاتب مجهزة بأحدث الوسائل التكنولوجية أو الأرض، وحوافز ضريبية مغرية للمستثمرين فى مجال التكنولوجيا المتطورة . وتجمع هذه المجمعات إجمالاً الشركات الابتكارية القائمة، ومؤسسات البحث والتطوير، والمؤسسات المالية، والمنشآت الصاعدة فى الموقع ذاته أو المنطقة ذاتها مما يخلق مجتمعاً مخصصاً لحفز ودعم وتشجيع الابتكار وتنظيم المشروعات. ومن السبل المؤدية إلى نشأة الشركات ونموها، لا سيما الشركات التى تستخدم تكنولوجيات متطورة، العمل على تحسين العلاقات بين منتجى المعارف والمهارات (الدوائر الأكاديمية)، ومستخدمى المعارف ومقدمى المنتجات/الخدمات (قطاع الصناعة )، والمشرعين /صانعى السياسات (الحكومة)، فهم يمثلون الجهات الفاعلة الرئيسية لأى نظام وطنى أو إقليمى للابتكار . لماذا لا نستغل الانتشار الجغرافى للجامعات المصرية فى دعم هذا الاتجاه وربط هذه الجامعات بأصحاب المشروعات من خلال تحديد مشروعات معينة تهدف لخدمة الاقتصاد الوطنى كما فعلت كوريا، حيث عمدت الحكومة هناك على إيجاد تعاون وثيق مع قطاع الصناعات والجامعات أثناء وضعها لإستراتيجيتها المتعلقة بالتكنولوجيا الإحيائية. لكن المعضلة الرئيسية التى تواجه تنفيذ هذه المشروعات الابتكارية تكمن فى قضية التمويل، فاستحدث عدد من البلدان آليات تمويل ابتكارية تهدف إلى حفز ظهور صناعات أو قطاعات أو إنشاء شركات بوجه عام . وتمثل بعض هذه الآليات مجموعة كاملة من تدابير التمويل التى تدعم إنشاء الشركات. ومن الآليات الفريدة فى مجال التمويل، على سبيل المثال، مؤسسة «فونداسيون شيلى « - وهى مؤسسة غير ربحية يبلغ رأسمالها 50 مليون دولار أمريكي، أنشأتها حكومة شيلى من أجل تطوير السبل الكفيلة بتنويع الاقتصاد فى شيلى من خلال إنشاء تجمعات صناعية . وهى لا تمول بالضرورة أصحاب المشروعات المحتملين بقدر ما تهتم باستخدام تمويلاتها فى عرض فرص تنظيم المشروعات . ووضعت بلدان كجنوب إفريقيا وماليزيا برامج متكاملة لتمكين شرائحها السكانية ومجتمعاتها المحلية التى كانت محرومة فى السابق من إقامة مشروعات من خلال برامج التمكين الاقتصادية . وتوفر هذه البرامج التمويل وإقامة الروابط مع المشروعات التجارية وتبرم العقود مع الحكومة والمحليات . وهناك سبل أخرى يمكن لواضعى السياسات انتهاجها لتحسين فرص الحصول على التمويل من خلال تيسير إنشاء شركات رءوس أموال المجازفة التى تتكفل على وجه الخصوص بتمويل الشركات الناشئة وتمويل نموها فى مجال معين، وإنشاء صناديق خاصة بتنظيم المشروعات وخفض تكاليف الإقراض المقدمة للمشروعات الناشئة. وقد أنشأ عدد من البلدان - من بينها الهند وكوريا وروسيا والمملكة المتحدة وجنوب إفريقيا - صناديق مدعومة من الحكومة لرءوس أموال المجازفة جذبت إليها مساهمة القطاع الخاص. ويمكن أيضاً للحكومة أن تشجع الأغنياء (المستثمرين الخيرين) على الاستثمار فى المراحل المبكرة من نمو إحدى الشركات، وذلك من خلال اتخاذ مبادرات من قبيل إقامة شبكات لرجال الأعمال الخيرين، وخطط مشاركة رجال الأعمال الخيرين فى الاستثمار، والخصم الضريبي، وخفض الضرائب المفروضة على عائدات هذه الاستثمارات. وباختصار، فالمستثمرون الخيرون هم فى الغالب أشخاص أغنياء يقدمون رءوس الأموال لإحدى الشركات الناشئة مقابل إسهامهم فى مجالات أو تكنولوجيات محددة تهمهم . وهم يسدون الثغرة الموجودة بين الدعم الذى تقدمه العائلة /الأصدقاء وبين تمويل رءوس أموال المجازفة ويمكن أيضاً للحكومة أن تستخدم الآليات التنظيمية المالية لإجبار المؤسسات المالية (كالمصارف وصناديق المعاشات التقاعدية وشركات التأمين) على تخصيص نسبة صغيرة من استثماراتها لصالح المشروعات الناشئة. ويمكن للحكومات مثلاً أن تطلب من المصارف التجارية تخصيص 5٪ مثلاً من قروضها للمشروعات الناشئة، وفى المقابل يمكن للحكومة خفض المبلغ نفسه من احتياطى المصرف المودع فى البنك المركزى . وقد استخدمت بلدان مثل ماليزيا نموذجاً مماثلاً يمكّن المؤسسات الصغيرة والمتوسطة من الحصول على قروض مصرفية. ومن خلال تشجيع هذه الآليات يمكن للحكومة أن تحد من التحويلات غير المشروعة إلى الخارج، فيشير تقرير معهد النزاهة المالية العالمية، إلى أن البلدان النامية خسرت فى عام 2011 وحده ما يقرب من تريليون دولار بسبب التحويلات غير المشروعة إلى العالم النامي. وعلى نفس النحو، خسرت عشرون دولة إفريقية مبالغ تعادل أكثر من 10٪ من ناتجها المحلى الإجمالى سنوياً منذ عام 1980 . والنقطة الأخيرة التى يجب أن نعيها هى تجنب إهدار الأموال على مشروعات لا تفيد الاقتصاد الوطنى باتباع الشفافية. فالشفافية فى تدبير وتخصيص الأعمال على سبيل المثال تفعل فعل السحر. وذلك بإشراك القطاع الخاص. كان الخبير الاقتصادى الحائز على جائزة نوبل فى الاقتصاد ويليام س. فيكرى يدافع بلا كلل أو ملل عن الطرق التى تتقاضى رسوماً التى تمولها شركات القطاع الخاص. ذلك أن إشراف القطاع الخاص من شأنه أن يقدم فى أغلب الأحوال بنية أفضل وأكثر كفاءة، وحتى الصين التى أضافت ما يزيد على خمسين ألف كيلومتر من الطرق والعشرات من المطارات طيلة السنوات الخمس الماضية، تستعين بتمويل القطاع الخاص .