لوحة اعلانية لافتة للانتباه فى مطلع كوبرى اكتوبر بمنطقة الدقى. اللوحة تعلن عن محل متخصص فى بيع طعام ومستلزمات الكلاب من اكسسوارات وما شابه. دلالات الإعلان ومحتوى الرسالة الاعلانية تقول ان شيئا مهما يجرى فى مصر الآن على الصعيدين الاقتصادى والاجتماعى. ثمة تغييرات سريعة وأنماط استهلاكية ضاغطة تضع الطبقة الوسطى وابناءها بين شقى الرحى. تلك الطبقة التى قادت التحول السياسى الكبير فى غضون السنوات الأربع الماضية. تلك الطبقة التى انقذت مصر فى 30 يونيو 2013 من فاشية دينية ودفعت بأحد أبنائها الى سدة السلطة. هذه الطبقة تواجه وعلى نحو منظم وممنهج متاعب التحولات الرأسمالية التى تجرى فى مصر منذ أكثر من عقدين. تحولات دفعت هذه الطبقة الى خوض معارك تعليم أبنائها فى الجامعات الخاصة بعد ان تدهور مستوى التعليم الحكومى الى درجة غير مقبولة وهو التعليم ذو التكلفة الشديدة الارتفاع ويلتهم تقريبا نحو 60 ٪ من اجمالى دخل الأسرة المتوسطة الذى يدور حول عشرة آلاف جنيه شهريا. واذا كانت التحولات الرأسمالية خلقت طلبا اضطراريا على التعليم الخاص لأبناء الطبقة الوسطى فإنها فى ذات الوقت خلقت إغراءات استهلاكية وضعت الطبقة الوسطى وأبناءها من الاجيال الجديدة تحت ضغوط شديدة زاد منها معدلات تضخم مرتفعة وقوة شرائية منخفضة للعملة المحلية. على سبيل المثال انتشار الكافيهات ذات الطابع الاوروبى والامريكى فى معظم الاحياء الراقية والمتوسطة فى المدن الجديدة، حيث تسكن الاجيال الصاعدة من المهنيين وكبار رموز البيروقراطية الحكومية والجهاز الادارى للدولة، وكذلك فى الاحياء المتميزة فى المدن القديمة جعل من ارتياد هذه الاماكن نشاطا شبه يومى للآلاف من ابناء الطبقة الوسطى حيث لا تقل فاتورة المشروبات للفرد الواحد فى هذه الأماكن عن مائة جنيه! مثال آخر.. لكى تحمى الطبقة الوسطى ابناءها من متاعب مرحلة المراهقة تضطر لأن تدفع بأبنائها الى ممارسة أنواع من الرياضة فى النوادى التقليدية - التى لاتزال تجاهد للحفاظ على سمعتها التاريخية - لكن تكلفة ممارسة أى نوع منA الرياضة باتت مكلفة للغاية فنحن نتحدث عن اشتراك شهرى فى أى من هذه الألعاب لا يقل عن ثلاثمائة جنيه بالاضافة الى مصاريف الانتقال والطعام والملابس ومستلزمات ممارسة اللعبة ومصروف شخصى علما بأن هذه التمارين تتم مرتين أو ثلاث مرات كل أسبوع حسب طبيعة اللعبة. (ضغوط ترويجية) مثال ثالث: يخطئ من يظن أن منتجعات الساحل الشمالى والعين السخنة وغيرها من الاماكن المصيفية مقصورة على الاغنياء بل إن العكس هو الصحيح تماما حيث إن أكثر من 09 ٪ من شاليهات هذه التجمعات الساحلية هى مملوكة للشريحتين العليا والمتوسطة فى الطبقة الوسطى المصرية بعد أن نجحت الضغوط الاعلامية والتسويقية الجبارة التى مورست على هذه الطبقة منذ مطلع عام 0002 فى أن تجعل من فكرة المنزل الصيفى إحدى ضرورات الحياة وجاهدت آلاف العائلات فى سداد اقساط امتدت لنحو 51 أو 20 عاما لامتلاك شاليه لا تزيد مساحته على 57 مترا مربعا. صحيح أن سعره الآن قد يقترب من النصف مليون جنيه لكنه فى الواقع تم شراؤه ربما بربع هذا المبلغ وعلى امتداد سنوات ومن ثم لا يعنى امتلاكه أن هذه العائلات الصغيرة ثرية. وبالتالى تتحمل هذه العائلات الآن عبء صيانة هذه المدن الاسمنتية التى لا تعمل سوى ثلاثة أشهر كل عام وتدفع رسوم الصيانة التى قد تصل الى عدة آلاف سنويا من لحمها الحى. وقد يرى البعض أن الامثلة الثلاثة التى ذكرناها فى السطور السابقة لا تمثل ضرورات حياة وأنه يمكن الاستغناء عنها جميعا ومع ذلك فان هذه الامثلة تشكل ملامح السلوك الاجتماعى للطبقة الوسطى ومن ثم يصبح التخلى عنها فى حقيقة الأمر خروجا من هذا الاطار الاجتماعى لهذه الطبقة. (جوهر الأزمة) ورغم كل شىء دعونا نفترض أن أوجه الانفاق التى سبق ذكرها هى ترفيهية وليست اساسية وأن ذلك لا يمثل جوهر الازمة الاقتصادية والاجتماعية التى تمسك بخناق الطبقة الوسطى المصرية فى هذه المرحلة فما هو جوهر الازمة؟! هو ذلك الثبات النسبى فى متوسط الدخل والانفاق للأسرة المتوسطة المصرية فى مواجهة ضغوط تضخمية غير مسبوقة أدت وسوف تؤدى الى مزيد من التدهور لمستوى معيشة هذه الاسر لأن دخولها لا تزيد بنفس زيادة الاسعار، الأمر الذى قد يدفع الكثيرين الى التخلى عن اشياء كانت ضرورية وتميز ملامح هذه الطبقة فى سنوات ماضية مثل رحلات الترفيه الاسبوعى أو الذهاب الى دور السينما عندما كانت السينما أداة وعى وناقلة للقيم الانسانية الراقية. واذا كان هذا التخلى الاضطرارى له وجه اجتماعى فإن له آثارا اقتصادية سلبية على حركة أداء الاقتصاد الكلى، لأن استهلاك الطبقة الوسطى من السلع والخدمات ظل لعشرات السنوات هو مصدر الطلب ومحرك النمو الحقيقى فى البلاد خاصة فيما يتعلق بالانتاج المحلى لأن الاغنياء يذهبون للتسوق فى الخارج والفقراء ليس لديهم ما يكفى وبالتالى لا يشترون سوى الضرورات من طعام وشراب الأمر الذى يعنى فى نهاية المطاف أن الضغوط التى تحاصر الطبقة الوسطى سوف تطال الاقتصاد المصرى برمته، ومن ثم لم تعد المشكلة أزمة شريحة اجتماعية تمثل العمود الفقرى للأمة المصرية، بل مشكلة اقتصاد يبحث عن مسار للخروج من عنق الزجاجة. دليل ذلك أن مدخرات القطاع العائلى فى الجهاز المصرفى وهى مدخرات مصدرها الطبقة الوسطى بالدرجة الاولى التى مولت تقريبا شهادات استثمار قناة السويس لا تزيد على نسبة 31 ٪ من اجمالى الناتج القومى وهو معدل ادخارى منخفض للغاية مقارنة بالدول ذات الدخل المنخفض المتوسط مثل مصر، وربما تمثل تلك المشكلة أبرز مشكلات تمويل الاستثمار فى مصر مما يدفعنا الى طلب تمويل خارجى عبر الاستثمارات الاجنبية بشروطها المتنوعة، واذا استمرت الضغوط التضخمية للأسعار على هذا النحو، فإن معدل الادخار هذا سوف يتعرض للمزيد من التراجع مما يعرقل خطط دعم النمو الحكومية. (أجيال جديدة) هذا على المستوى القومى أما على المستوى الاجتماعى فإن الاجيال الجديدة من ابناء الطبقة المتوسطة التى قد تكون قد حصلت على تعليم جيد وربما تكون قد حصلت على فرص عمل معقولة برواتب تدور حول خمسة آلاف جنيه شهريا وسوف تكون محظوظة فى هذه الحالة. هذه الاجيال لن تستطيع أن تحيا الحياة التى عرفتها فى السنوات العشرين الماضية فمثلا ابن الطبقة الوسطى الذى نشأ وتربى فى شقة بمنطقة المنيل لن يستطيع الحصول على شقة ليتزوج فيها فى نفس الحى الذى شهد طفولته وشبابه وسوف يضطر للقبول بالسكن فى منطقة ذات مستوى أقل من منطقة المنيل رغم أن راتبه رقميا قد يتجاوز الخمسة آلاف جنيه شهريا وربما قد يشغل وظيفة مرموقة اجتماعيا هذا هو المأزق الحقيقى للطبقة الوسطى الذى وضعها داخل مطحنة.. لا تدرى فى أى اتجاه سوف تدفع بها وتدفع معها مصر ثمنا باهظا فى قادم السنوات.