ارتفع سعر الدولار مقابل الجنيه المصرى خلال الشهر الأخير بحيث تخطى حد ثمانية جنيهات للدولار الواحد. وفى محاولة للبنك المركزى المصرى للتقريب بين سعره فى البنوك وخارجها أخذ يخفض سعر الجنيه الى أن وصل الى حوالى 06.7 جنيه فى أواخر يناير 5102 ولا شك أن ارتفاع سعر الدولار هذا يشكل حريقا فى الاقتصاد المصرى يؤدى الى زيادة معدل التضخم وارتفاع المستوى العام للاسعار. فهل رفع سعر الدولار فى البنوك مقابل الجنيه المصرى يفلح فى اطفاء هذا الحريق أم أنه يسكب الزيت على النار بما يزيدها اشتعالا؟ إن هناك من المؤشرات التى تدفع الى تدهور قيمة الجنيه المصرى مقابل الدولار من بينها: عدم زيادة الصادرات مع تزايد الواردات بحيث اصبح عجز الميزان التجارى نحو 03 مليار دولار، وانخفاض حصيلة السياحة، وعدم تلبية البنوك لفتح الاعتمادات، وعدم عودة السياحة الى مستواها السابق ولا نتحدث عن وصولها الى الطاقة الكاملة، والانخفاض الشديد فى احتياطيات العملات الاجنبية من نحو 04 مليار دولار الى أقل من 51 مليار دولار مما يصعب على البنك المركزى التدخل ببيع الدولارات من اجل المحافظة على سعر صرف الجنيه المصرى مقابل الدولار. غير أنه هل من الحكمة أن يندفع البنك المركزى فى تخفيض قيمة الجنيه بنسبة نحو 6٪ من قيمته خلال أقل من شهر؟ وما الهدف الذى يريد أن يحققه، وهل سوف ينجح فى ذلك؟ أولا: اذا كان هدف البنك المركزى من هذا التخفيض تحسين حالة ميزان المدفوعات، فإن ذلك لن يتحقق لسبب واضح وهو أن الشروط اللازمة غير متوفرة وهى أن تكون مرونة الصادرات والواردات أكبر من واحد صحيح، أى أن استجابة الصادرات لانخفاض قيمة الجنيه تكون كبيرة وكى يكون الامر كذلك لابد أن يكون الجهاز الانتاجى مرنا ويزيد من انتاجه القابل للتصدير فى هذه الظروف المستجدة، كما يجب أن تكون الواردات على درجة عالية من المرونة لتخفض قيمة الجنيه ونعتقد أن هذا ليس قائما ايضا حيث إن وارداتنا من السلع الاستهلاكية الغذائية ومستلزمات الانتاج والسلع الرأسمالية والسلع التى يمكن الاستغناء عن وارداتها لكونها ترفية أو مستفزة قيمتها لا تزيد على عدة مئات من ملايين الدولارات فى حين أن جملة الواردات تصل الى نحو 06 مليار دولار. ثانيا: اذا كان هدف البنك المركزى المصرى، أن تزيد الدولارات التى ترد الى الجهاز المصرفي، فى ضوء رفع سعر الدولار، فلا أعتقد أن هذا سوف يتحقق بل الذى حدث فى الواقع، قلت حصيلة البنوك من العملات الاجنبية انتظارا لمزيد من خفض قيمة الجنيه المصرى التى أعلن البنك المركزى أنه سوف يعمل على تنفيذها ومثل هذا الاعلان ما كان ينبغى أن يتم ابدا شأنه شأن التغيير فى تعريفة الرسوم الجمركية الذى لا يتم الا بعد تنفيذه فعلا، وما حدث خطأ مهنى ما كان ينبغى أن يقع فيه مبتدئ، فى تنفيذ سياسة سعر الصرف. ثالثا: لعل السبب الرئيسى الذى دفع البنك المركزى الى سلسلة التخفيضات المتتالية فى سعر الجنيه المصرى هو محاولة القضاء على الفارق بين سعر الدولار فى البنوك وسعره فى السوق، اتباعا بمقولة البعض أن نجاح مؤتمر الاستثمار المزمع عقده فى مارس القادم يتوقف على وجود سعر واحد للعملة، وهذا امر يحتاج الى وقفة. من ناحية نجاح مؤتمر الاستثمار (أى جذب استثمارات كبيرة بمليارات الدولارات فى مختلف قطاعات الاقتصاد القومى) يتوقف على اعتبارات عديدة من بينها فاعلية المسئولين عن الاستثمار فى مصر، وحل مشكلات المستثمرين الحاليين، وقوانين العمل والعمال، والاطار المؤسسى السائد الذى يرفع من تكلفة أداء الاعمال، وهذه هى العوامل الجوهرية والرئيسية فى جذب مزيد من الاستثمار ولن يحول دون ورودها وجود سعر من العملة، صحيح أن توحُّد السعر افضل، ولكنه ليس له الاولوية فى تحقيق أهداف المؤتمر القادم. ومن ناحية أخرى فإن رفع سعر الدولار مقابل الجنيه المصرى فى البنوك لن يحقق سيادة سعر واحد داخلها وخارجها، وذلك أنه لظروف العرض والطلب الحالية، فإن رفع سعر البنك يؤدى الى مزيد من الارتفاع فى السوق مما يبقى الفجوة بينهما على ما هى عليه، إن لم تتسع أكثر. وهذه معروفة فى مصر »بقفزة الأرنب« ويؤدى هذا الرفع الى زيادة فاتورة الاستيراد بما يقدر بنحو 53 مليار جنيه مصرى ويرفع من معدل التضخم، ويكبد اصحاب الدخول المنخفضة اعباء جديدة تتمثل فى اسعار الخبز والزيت وغيرها من السلع الاساسية التى نستوردها، وكل ذلك بدون زيادة فى حصيلة الصادرات أو تزايد الصادرات المصرية. إذن من المؤكد فى رأينا أن البنك المركزى لن يستطيع أن يوحد السعرين فى القريب العاجل، ناهيك عن شهر مارس تاريخ انعقاد المؤتمر الاقتصادى والاستثمارى أيا كانت تسميته. وهل يعنى ما سبق أن يقف البنك المركزى المصرى متفرجا مكتوف اليدين أمام اتساع الفجوة بين سعرى الدولار فى البنك والسوق؟ الاجابة هى بالقطع لا، إن نظام السوق الذى نسعى الى السير على هداه يقتضى أن يكون سعر الجنيه مقابل الدولار سعرا واحدا. غير أن هذا الأمر يكون فى ظل الاحوال العادية، واكتمال سوق الصرف، ومصر الآن كما هو واضح للعيان ليست فى ظروف عادية وسوق الصرف ليست مكتملة وفى ظل ذلك، من الانسب أن يكون نظام سعر الصرف متعدد الاسعار وليس واحدا تبعا لظروف العرض والطلب وذلك من اجل تجنب ارتفاع معدل التضخم ارتفاعا كبيرا يضر بالاستثمار والتنمية وتكلفة المعيشة ومن العجب العجاب أنه فى ظل هذه الظروف وارتفاع الضغوط التضخمية الواقعة والمتوقعة يقوم البنك المركزى المصرى بتخفيض سعر الفائدة على الجنيه المصرى لا أن يرفعها. والسؤال الآن، ما الذى ينبغى أن يفعله البنك المركزى المصرى؟ عدة اشياء منها: - تقدير السعر الملائم للدولار مقابل الجنيه، ولا نقول السعر الحقيقى أو التوازنى اللذين يصعب تحديدهما فى أى دولة ولكن يجب تحديد سعر «مرجعى» يكون رائدا فى الاجراءات التى تتخذ مع تحقيق الاهداف الاخرى (النمو والاستقرار والعدالة وعدم رفع تكلفة المعيشة وخاصة على اصحاب الدخل المحدود). - لقد كان سعر الدولار بالبنوك قبل التخفيضات 51.7 جنيه للدولار، واقصى خفض تدريجى فى رأيى خلال النصف الاول من عام 5102 يجب الا يتعدى 3٪ من هذا السعر أى نحو 02 قرشا وعلى ذلك أقدر أن متوسط سعر الدولار خلال الشهور الستة القادمة يجب أن يعود الى نحو 53.7 قرش. - لكى يتم ذلك أقترح أن يقوم البنك المركزى بخفض سعر الدولار تدريجيا فى البنوك كى يصل الى هذا المستوى. - واقترح أن يتخلى البنك المركزى عن محاولة توحيد السعرين على الاقل خلال هذه الفترة ما لم تتحقق زيادة كبيرة فى ايرادات العملة الاجنبية سواء بزيادة ايرادات السياحة أو الصادرات الاخرى وهو غير متوقع وإن حدث فيكون خيرا وبركة . - أن يخصص البنك المركزى ايرادات العملات الاجنبية التى ترد الى البنوك لاستيراد السلع الغذائية الاساسية ومستلزمات الانتاج الضرورية والسلع الرأسمالية والآلات اللازمة للمصانع منعا لارتفاع معدل التضخم والمستوى العام للاسعار. وهذا يقتضى تحديد اسعار هذه السلع الممولة من البنوك حتى لا يزيد العبء على المواطن أو الاقتصاد المصرى. غير ذلك من السلع يدبر مستوردوها العملات الاجنبية بالسعر السائد فى السوق، وينبغى الا يلتفت البنك المركزى الى هذا السعر أو اسعار بيع هذه المنتجات محليا، فاذا زادت اسعارها زيادة كبيرة فى ضوء ارتفاع سعر الدولار، فان المستهلكين هم الذين سيوقفون استيراد هذه السلع فى ظل سيادة المستهلك وهذا مما يقلل الطلب على الدولار خارج الجهاز المصرفى ويردم الفجوة بينه وبين سعر السوق. من الجدير بالذكر هنا أن هذا النظام مختلف عن قرارت 5 يناير 5891 الشهيرة التى ألغت نظام الاستيراد بدون تحويل عملة الذى أدى الى توقف عجلة الانتاج فى كثير من المصانع رغم توافر العملة من مواردها الخاصة، اذ كان يجبرها على التنازل عن هذه العملة للبنك ثم يقف فى طابور انتظار فتح الاعتمادات، أما النظام المقترح هنا فانه يسمح للمستوردين بتدبير العملة اللازمة لتمويل وارداتهم ويتحملون تبعات ذلك بعدم البيع نتيجة لارتفاع سعر الدولار. وبالاضافة الى ما سبق على البنك المركزى أن يستخدم أدوات السياسة النقدية الاخرى بما يعمل على تحقيق الاستقرار السعرى وعليه ايضا كمستشار للحكومة أن يشجعها على الحد من طلبها للعملات الاجنبية من أجل تهدئة اسعارها. ويقترح أن يطبق هذا النظام لمدة الأشهر الستة القادمة ونتابع نتائجه، وبعدها ندخل التعديلات الملائمة لتنمية مصر وتحقيق اهدافها الاقتصادية. إن السياسات الاقتصادية التى طبقت خلال نصف القرن الماضى كانت تقوم على مبدأ اطفاء الحرائق وليس السير على نهج مخطط يحقق النماء والاستقرار والعدالة لمصر. ولذلك لم نحقق المستوى اللائق بنا الذى سبقنا اليه كثير من الدول التى كانت متأخرة عنا، أما اذا قامت الحرائق بالرغم من ذلك فلابد من اطفائها وحريق سعر الدولار يجب اطفاؤه ونعتقد أن المقترحات السابقة تعمل على ذلك وغيرها من الاجراءات اخشى أن تكون بمثابة سكب مزيد من الزيت على النار