شهدت الايام الاخيرة من عام 2014 مجموعة متلاحقة من الاحداث تعكس فى الوجه الاول نهاية حقبة طويلة من الحرب الباردة التى جرت رحاها على ارض الجزيرة الكوبية، اما الوجه الثانى، فقد عكس احتدام هذه الحرب فى صورة جديدة، ممثلة فى العلاقات بين روسيا والغرب. حيث اعلن الرئيس الامريكى باراك اوباما عن تطبيع العلاقات مع كوبا بعد اكثر من ستين عاما من الحظر والعقوبات الاقتصادية الامريكية على هافانا، بعد وصول فيدل كاسترو الى الحكم وتأميمه ممتلكات رجال الاعمال الامريكين فى بلاده فى اعقاب فشل عملية الغزو المعروفة باسم (خليج الخنازير) وذلك فى بداية الستينيات. وفى ذات التوقيت، كان الاعلان عن تشديد العقوبات على روسيا من خلال فرض حزمة جديدة، تعد الثالثة خلال الفترة من شهر مارس وحتى ديسمبر مرورا بشهر اغسطس، وبما يؤدى الى اهدار النتائج الايجابية التى كان يمكن ان تترتب على الاجراءات المتخذة من جانب البنك المركزى الروسى مؤخرا، وبذلك اصبحت روسيا رهينة العقوبات الاقتصادية الامريكية المشددة، بعد مرور فترة لا تتجاوز العامين على إلغاء العقوبات السابقة التى فرضت عام 1975 من جانب الرئيس جيرالد فورد لاجبار الاتحاد السوفيتى- حينذاك - باطلاق حرية الهجرة امام يهود روسيا التى عرفت باسم قانون جاكسون-فينك، الذى ظل ساريا حتى عام 2012 وهو ذات التاريخ الذى شهد انضمام روسيا الى منظمة التجارة العالمية بعد مفاوضات دامت 18 عاما، كانت الولاياتالمتحدة خلالها العقبة الكئود، خاصة مع وجود قانون فرعى اخر يعرف باسم قانون ماجنييتسكى صدر عام 2009 يحرم روسيا من معاملة الدولة الاولى بالرعاية. * وبغض النظر عن العفو الذى فازت به كوبا والعبء الجديد الذى فرض على روسيا، فان كلاهما يعكس الافراط الامريكى فى استخدام العقوبات الاقتصادية كاحد ادوات السياسة السياسة الخارجية او كبديل عن الدخول فى حرب لتحقيق الاهداف المرجوة، وقد ظهر ذلك بصورة جلية فى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ابتداء من سيريلانكا والهند وكوريا الجنوبية وتايوان، الى ايران وسوريا مرورا بالعراق، ولكن قد تفرض فى حالة النزاعات التجارية للدول او لحماية منتج او صناعة ما، او لتحقيق مكاسب سياسية داخلية بالنسبة لهذه الدولة او تلك. * على الرغم من وجود نص فى ميثاق الاممالمتحدة ينص على العقوبات الاقتصادية فى حالة الخرق من جانب احدى الدول لبنوده ومواده، الا ان واشنطن اختطت لنفسها خطا مختلفا، انتهجت فيه الحرية المطلقة لفرض العقوبات بعيدا عن مظلة المنظمة الدولية، حدث ذلك بالنسبة لكوباوروسيا على حد سواء. ومن ثم فان واشنطن تفتقر الى الشرعية الدولية فى هذا الصدد وبما يدعم موقف كل من هافانا وموسكو. * بالنسبة لكوبا، يرى الكثيرون ان الحظر والعقوبات لم تأت بثمارها المرجوة عبر هذه الفترة الطويلة من الزمان، حقيقة نصيب الفرد من اجمالى الناتج المحلى منخفض مقارنة بالولاياتالمتحدة، حيث يبلغ 6.051 الف دولار بينما يبلغ 53.041 ألفا للثانية، الا ان الحكم الشيوعى فى البلاد ظل صامدا مستندا الى دول اخرى مثال فنزويلا. ومن ثم اعتبر راءول كاسترو رئيس الجمهورية ان الاعلان الامريكى بمثابة انتصار للثورة الكوبية وقد سبق ان احتفلت هافانا بالعيد الخمسين لفشل عملية خليج الخنازير فى عام 2011 . بل تشير الارقام الى ان التحويلات من جانب الامريكيين من اصل كوبى الى عائلاتهم بلغت 3.5 مليار دولار فى عام 2014 واوضحت استطلاعات الرأى ان 66٪ من الامريكيين مع رفع الحظر مقابل معارضة 27٪ ، كما ان غرفة التجارة الامريكية ايدت القرار نظرا لان الهدف منه لم يتحقق، فى ظل قيام 600 الف مواطن امريكى من اصل كوبى بزيارة الجزيرة عام 2013 ورغبة رجال الاعمال فى الاستفادة من فرص الاستثمار المتاحة. وعلى الصعيد السياسى هناك الكثير من المفارقات والتطورات، فقد كان الافراد من اصل كوبى يناصرون الحزب الجمهورى وتمثل مدينة ميامى وولاية فلوريدا معقلهم، الا ان انتهاء الحرب الباردة افقدهم هذه السطوة وتحول الكثيرون الى الحزب الديمقراطى (يبلغ عددهم الاجمالى 1900 الف فرد)، اعتمد عليهم كلينتون فى تمويل انتخابات الرئاسة عام 1992 واصدر فى عام 1996 قانون حرية كوبا والتضامن الديمقراطى الذى شدد من العقوبات، الا ان هلارى كلينتون زوجته، هى التى طالبت بصفحة جديدة ومفاوضات سرية خلال توليها منصب وزيرة الخارجية . وليس هناك ادل من المقولة القائلة بان امريكا ارادت عزل كوبا فانعزلت هى، حيث صوتت الجمعية العامة للامم المتحدة لصالح كوبا، للمرة ال23 هذا العام ولم يشذ عن الاجماع سوى امريكا واسرائيل، ولم ينفع ادراجها فى محور الشر عام 2002 ولا تشديد العقوبات فى تغيير نظام آل كاسترو الذى فتح ابواب الهجرة فتدفق مئات الالاف الى الشواطئ الامريكية..!!! * جاءت تطورات الحزمة الثالثة من العقوبات الامريكية فى مواجهة روسيا، لتعلن عن مرحلة جديدة من الحرب الباردة على الصعيد التجارى، وقد كان للتطورات مع كوبا اثرها فى اعلان موسكو ان واشنطن استغرقت اكثر من نصف قرن لتكتشف خطأها السياسى وعدم جدوى العقوبات. ولكن لا يمكن اغفال اثر هذه العقوبات التى توافقت زمانيا مع الانخفاض الحاد فى اسعار النفط الخام والغاز الى اقل من 60 دولارا للبرميل. وبغض النظر عن كون هذا الانخفاض مخططا له من جانب الادارة الامريكية، الا انه اثر فى اقتصاد روسيا، حيث يمثل نسبة 67٪ من الصادرات و50٪ من ايرادات الدولة من العملة الاجنبية. وكان من الطبيعى ان تنخفض قيمة الروبل فى مواجهة الدولار من 32 وحدة عام 2014 ال68 وحدة فى الوقت الراهن. ومن ثم ازدادات تكلفة الواردات بالنسبة للمواطن الروسى وانخفض استهلاكه للسلع العادية مركزا على السلع المعمرة حفاظا على قيمة مدخراته، وقد كان يوم 15 /12 اسوأ يوم حيث بلغ معدل التبادل 73 روبل مقابل العملة الامريكية، مما جدد الذكريات السيئة لعام 1998 . ونظرا لعدم رغبة البنك المركزى فى احداث فزع عام اعلن عن سلسلة من الاجراءات لتحقيق الاستقرار للنظام المصرفى وتجنب فرض قيود على حركة رءوس الاموال حيث تؤثر على الثقة فى سوق الاوراق المالية. كما اعلن فى ذات الوقت عن عزمه طرح 7 مليارات دولار لدعم الطلب ومساندة البنوك، وقد كانت البداية ب1.961 مليار دولار، الى جانب الاجراءات السبع التى تضمنت رفع سعر الفائدة ودعم البنوك (التى خضعت للعقوبات وغيرها من المؤسسات المصرفىة) مع تمديد آجال السداد وخفض نسبة المخاطرة لقروض المصدرين من خلال وكالة ضمان الصادرات . ولا شك فى معاناة الاقتصاد الروسى خاصة ان العقوبات جماعية من جانب امريكا وكندا والاتحاد الاوروبى- على النقيض من كوبا- الا انه لا يمكن حصر الاثار السلبية عليه، حيث يمتد الى اطراف اخرى مثل دول شرق ووسط اسيا التى تستورد منها روسيا، وحتى بالنسبة لالمانيا وفرنسا وايطاليا (20٪ من واردات روسيا منها) . ويكفى ان نشير الى أن 32 مليون سائح روسى زاروا اوروبا عام 2013 . كما ان الاتحاد الاوروبى يعانى من انخفاض النمو والركود مما اثر على اليورو بالسلب، وتوضح المتابعة ان العملة الاوروبية متلازمة مع الازمات الروسية، حدث ذلك فى السبعينيات والتسعينيات وكذلك النصف الثانى من عام 2008 . ومع التسليم بدقة موقف الرئاسة والحكومة الروسية، الا ان المعاناة الحقيقية تكون للمواطن الروسى، شأن المواطن الكوبى وكل مواطن فى اى دولة تخضع للعقوبات الاقتصادية، مما يجردها من انسانيتها .