115 عاما تمر علي بداية صناعة الغزل والنسيج التي انطلقت تحديدا عام1899 و20 عاما علي قرار تحرير تجارة القطن الذي صدر عام1994 وتسبب في توجيه ضربات قاسية متتالية الي صناعة الغزل والنسيج الأعرق والأقدم بين الصناعات المصرية التي تعاني حاليا من تدهور شديد أدي الي فقدان تنافسية المنتج المصري من الغزل والنسيج والملابس الجاهزة علي مستوي العالم. فما مصير هذه الصناعة ؟ لماذا لا يتم إيقاف طوفان تهريب الأقمشة الجاهزة المستوردة التي أغرقت الأسواق واغلقت المصانع! وكيف يتم إعداد جيل جديد من العمالة بعد ان هجرها العمال وتحولوا عنها ؟ الدكتور محمد عبد الغني خبير صناعة الغزل والنسيج يوضح: المصريون القدماء هم اول من زرعوا الكتان واستخدموه في غزل خيوط رفيعة صنعوا منها انواعا جيدة من النسيج, كما ان المصريين هم أول من فكروا في طريقة عملية لنسج الأقمشة فتوصلوا الي تكوين النسيج من الخيوط الطولية والخيوط العرضية. وقد شهد عام1899 انشاء الشركة الأهلية للغزل والنسيج وتعتبر هذه الشركة خير دليل علي تطوير هذه الصناعة والنهوض بها, واعتمادا علي الأقطان التي استحدثت مصر زراعتها مع بداية القرن الماضي علي يد محمد علي باشا الذي ادخل الصناعة الحديثة الي مصر وفي مقدمتها صناعة الغزل والنسيج- تم انشاء شركة الغزل النسيجية بالاسكندرية عام1911 كمحاولة جادة لإقامة وتطوير صناعات نسيجية في مصر, ثم جاءت البداية الحقيقية لقيام ركيزة ثابتة للصناعات النسيجية بمصر عندما انشأ بنك مصر شركة المحلة للغزل والمنسوجات التي بدأ انتاجها في عام1930. وقد ساعدت ظروف قيام الحرب العالمية الثانية عام1939, وانقطاع الواردات الأجنبية علي ازدهار صناعة الغزل والنسيج في مصر, إذ تم انشاء عدد من المشروعات الوطنية في مجال صناعة الغزل والنسيج التي كان من ابرزها مجموعة من الشركات التي انشأها بنك مصر, والتي تعد اساسا متينا لصناعة النسيج في مصر مثل, شركة كفر الدوار, وصباغي البيضا ومصر حلوان وفي هذه الفترة تحقق لمصر الاكتفاء الذاتي من المنتجات النسيجية بعد ان كانت مستوردة لها غير ان عودة الواردات الأجنبية من الصناعات النسيجية والملابس للمنافسة بعد انتهاء الحرب تعد تحديا كبيرا أمام هذه الصناعة في الفترة ما بين1449-1952, الامر الذي دفع حكومة الثورة الي انشاء صندوق دعم الغزل والمنسوجات القطنية في عام1953 لدعم وتطوير الصناعة والعمل علي تنمية صادراتها بما يكفل الاستقرار في الأسواق المحلية ويعزز قدرة هذه الصناعة علي الازدهار والتوسع وزيادة قدرتها التنافسية وهو ما ساعد علي تحقيق طفرة كبيرة وسريعة في الصناعات النسيجية في مصر خلال هذه الفترة. ونظرا لاحتكار القطاع العام لهذه الصناعة- بعد تأميم الشركات الكبري لصناعة الغزل والنسيج والكثير من الوحدات التابعة التي يملكها الأفراد التي أصبحت تابعة للقطاع العام بصدور قانون التأمينات في يوليو1961- اضطرت شركات القطاع الخاص العاملة في هذه الصناعة الي اللجوء, إما الي شركات القطاع العام الكبري للحصول علي مستلزمات الانتاج التي تحتاجها او للعمل بأجر لدي شركات القطاع العام في صورة عقود من الباطن وقد تميزت الفترة التي اعقبت التأميم بازدهار كبير في صناعة الغزل والنسيج, حيث اصبحت شركات القطاع العام العاملة في هذا المجال هي المنتج الأكبر والمستحوذ علي الحصة الأغلب في السوق المحلية, فقد اصبح نشاط هذه الشركات يغطي جميع المنتجات النسيجية القطنية والحريرية والصوفية والألياف النباتية ومنتجات التريكو والملابس الجاهزة في حين تخلف دور القطاع الخاص الذي لم تتجاوز قيمة انتاجه116 مليون جنيه في عام1967, بنسبة30.5% من اجمالي قيمة ما انتجته الصناعة في هذا العام ولم تتعد صادراته في نفس العام اكثر من108 ملايين جنيه وهو ما يعادل3.6% من اجمالي صادرات الصناعة. وبتبني مصر سياسات الانفتاح الاقتصادي بداية من السبعينيات باصدار القانون رقم43 لسنة1974, اتيحت الفرصة امام القطاع الخاص للدخول في هذه الصناعة ومشاركة القطاع العام, ففي بداية السبعينيات ازداد نشاط القطاع الخاص, وأخذ في الانتشار بشكل كبير ودخل في الكثير من المشروعات المنتجة للنسيج في مصر, إذ وصل عدد هذه المشروعات خلال الفترة من1973-1983 الي نحو2445 مشروعا في مجالات النسيج والتريكو والملابس الجاهزة والصباغة والتجهيز وبتكاليف استثمارية بلغت أكثر من480 مليون جنيه مما انعكس علي حجم انتاجه وصادراته. وعلي الرغم مما أظهرته بداية عصر الانفتاح الاقتصادي من انفراجة في هذه الصناعة فإن المتابع قد يستطيع الوقوف علي ان السنوات الأخيرة قد شهدت تراجعا ملحوظا في صناعة الغزل والنسيج في مصر, وهو ما ارجعه البعض الي عدم اهتمام الحكومة بزراعة محصول القطن الذي فقد تنافسيته العالمية, في حين ارجع البعض هذا التقهقر الي عدم وجود اقبال من الشباب في مصر علي العمل بصناعة الغزل والنسيج مما تسبب في وجود نقص في العمالة بهذه الصناعة, وبالتالي عدم وجود العمالة الماهرة المدربة ذات الخبرة في هذا المجال, اذ انخفض انتاج صناعة المنسوجات والملابس الجاهزة في عام2004 حتي وصل الي5 مليارات دولار ليسجل بذلك أدني مستوي له منذ عام1997, وكان8 مليارات دولار وهو ماقد ارجعه البعض- اضافة الي ما ورد سابقا من اسباب- الي المعاملة التفضيلية لبعض الدول نتيجة عقد اتفاقيات تجارية ثنائية جاءت الأزمة المالية العالمية عام2009 لتكرس الأضرار وتحسن من أداء هذه الصناعة ضمن اطار عام من التراجع في الكثير من المنظومات الصناعية والتجارية علي المستوي العالمي. ثم أخيرا تراجع الانتاج والاضرابات العمالية منذ ثورة25 يناير2011 وحتي الان. يعتبر الغزل والنسيج والملابس ثاني أكبر المنتجات ديناميكية علي مستوي العالم يسبقه في ذلك المنتجات الالكترونية إذ تتغير بشكل سريع ومستمر, وقد ظهر بوضوح خلال العقدين الماضيين. ولا يمكن إغفال الدور الذي تؤديه صناعة الغزل والنسيج في النهوض باقتصاديات الدول النامية التي اعتمد اقتصادها بشكل كبير علي هذه الصناعة, إذ تتميز منتجات هذه الصناعة بالسهولة والتنوع إضافة الي امكانية تصديرها الي جميع دول العالم وتنبع أهمية هذه الصناعة في حالة الدول النامية من حيث استيعابها لعدد كبير من العمالة وهو ما يوفر الكثير من فرص العمل وخاصة للإناث حيث تعد هذه الصناعة هي إحدي الصناعات الصديقة للإناث. وتتميز صناعة الغزل والنسيج كذلك بانخفاض تكلفتها مقارنة بصناعات أخري عدة مما يساعد علي انتشار المشروعات الصغيرة والمتوسطة التي تعمل في صناعة الغزل والنسيج والملابس الجاهزة, وبذلك يتضح ان هذه الصناعة بين أحد الحلول المباشرة لأزمة البطالة وانخفاض تشغيل الإناث ومشاركتهن في سوق العمل بالدول النامية, وهو ما يكسبها ميزة نسبية تفوق نظائرها من القطاعات الصناعية والتجارية الأخري. يضيف د. محمد عبد الغني: تم إجراء دراسة تبحث في أسباب عدم اقبال الشباب علي العمل بصناعة الغزل والنسيج في مصر وقياس خصائص العمل بهذه الصناعة. ولتحقيق الهدف المنشود من الدراسة فقد تم استخدام اسلوبين في التحليل الكيفي من خلال التعرف علي آراء الخبراء والمتخصصين في مجال الغزل والنسيج في مصر وهو ما استدعي القيام بعدد من الجلسات الحوارية التي تمت علي عدة مراحل مع مختلف أطياف العملية الصناعية والانتاجية, كذلك تم استخدام اسلوب التحليل الكمي عن طريق تنفيذ مسح استهداف عدد من المنشآت العاملة في الصناعة مع تمثيل للأنشطة الفرعية لهذه الصناعة أعقبه استهداف لمجموعة من العاملين بهذه المنشآت. وقد تم تقسيم الدراسة الي خمسة اقسام رئيسية يلقي الاول منها الضوء علي أحوال صناعة الغزل والنسيج علي مستوي العالم بصفة عامة وفي مصر بصفة خاصة ويقوم القسم الثاني بعرض المنهجية المستخدمة في التحليل ومصادر البيانات التي تم الاعتماد عليها, بينما يستعرض القسمان الثالث والرابع تحليل النتائج التي تم التوصل اليها وفي الختام تم تخصيص قسم خاص بالمقترحات التي يمكن الاستفادة منها في تطوير هذه الصناعة والنهوض بها, الذي خصص قسما خاصا به لمقترح تطوير التعليم الفني الصناعي. وقد اسفرت هذه الدراسة عن عدد من النتائج المهمة: * تراجع اهتمام الدولة بزراعة القطن كان أهم اسباب تدهور الغزل والنسيج في مصر خلال العقدين الماضيين, مما ترتب عليه تناقص الانتاج الكلي من القطن, فقد تراجعت المساحة المزروعة بمحصول القطن من نحو993 الف فدان عام1991/1990 الي نحو الف فدان2013/2012. وكأحد مظاهر تدهور صناعة الغزل والنسيج في مصر- وأحد أسبابها ايضا- تراجع حجم العمالة بهذه الصناعة وبخاصة في القطاع الخاص. وكان اكثر من ثلثي العاملين بصناعة الغزل والنسيج من الشباب اقل من30 سنة مما يعني ان الصناعة تعتمد علي العنصر الشبابي بدرجة اكبر والنسبة الكبري من العاملين45.1% من خريجي التعليم المتوسط. *توطن صناعة الغزل والنسيج في مصر في اماكن بعيدة عن اماكن تركز السكان او في محافظات معينة كان احد اسباب عزوف الشباب عن العمل بهذه الصناعة وتعد الاشارة الي توطن الصناعة في محافظات بعيدة مرجعها في ذلك المصانع المنشأة حديثا بالمدن الصناعية الجديدة, اذ تشير النتائج الي ان نحو30% من العاملين بمنشآت الغزل والنسيج بالعينة يضطرون الي الانتقال من محافظات اقامتهم الي محافظات اخري للعمل. * لا تختلف خصائص العمل بصناعة الغزل والنسيج عن خصائص العمل بالصناعات الاخري اذ لم يزد متوسط عدد ساعات العمل اليومية عن المعدل الطبيعي البالغ8 ساعات كذلك ايام العمل في الاسبوع لم تتعد ستة ايام. *توجد فجوة بين متوسط الاجر الشهري الذي يحصل عليه بالفعل العاملون بصناعة الغزل والنسيج وبين ما يأملون في الحصول عليه حيث بلغ متوسط الاجر الفعلي للعاملين في هذه الصناعة نحو613 جنيها شهريا بينما يرغب العاملون في المتوسط في الحصول علي الحد الادني للاجور الذي حددته الدولة1200 جنيه. * تتطلب صناعة الغزل والنسيج تمتع العاملين بمهارات معينة وهو ما اشار إليه نحو74.8% من العاملين بمنشآت الصناعة, وتأتي مراكز التدريب والتأهيل التابعة للقطاع الخاص علي قمة المصادر التي يعتمد عليها العاملون في الحصول علي التأهيل اللازم للصناعة يليها التعلم علي يد اسطي. *اشار نحو71.8% من اصحاب وممثلي المنشآت العاملة في صناعة الغزل والنسيج الي ان المنشآت تقوم بعمل دورات تدريبية للعاملين عند الالتحاق بالعمل في حين يهتم ما يقرب من ثلاثة ارباع المنشآت بعمل دورات تدريبية وتأهيلية للعاملين اثناء العمل لرفع مهاراتهم. *العلاقات الشخصية ثم الصحف والجرائد والاعلانات المطبوعة هي اكثر الأساليب التي تستخدمها المنشآت للاعلان عن الوظائف الشاغرة لديها وتتم الاختبارات للمتقدمين للوظائف من خلال المقابلات الشخصية. *لم يكن المؤهل او النوع او عدد سنوات الخبرة شرطا اساسيا للعمل في المهن الشاغرة وانما كان يشترط اداء العمل بجودة عالية في المقام الاول. *اشار59% من اصحاب الاعمال الي انهم يفضلون العاملين من فئة الشباب لما يمتازون به من قدرة بدنية وتحملهم للسهر والعمل لوقت متأخر في حين ان قرابة7.7% يفضلون الافراد الاكبر سنا. *اشار نحو82.1% من اصحاب الاعمال بمنشآت العينة الي ان الوصول الي الشباب حديثي التخرج قد يكون اسهل بكثير من الوصول الي العاملين الأقدم ذوي الخبرة. *نحو57.7% من اصحاب الاعمال اشاروا الي أن الوصول الي العاملين ذوي المؤهلات الذين لديهم مهارات منخفضة يكون اسهل من الوصول الي من لديهم مهارات كفء وذلك نتيجة توفر اصحاب المهارة المنخفضة بصورة اكبر في سوق العمل الذي قد يعود لمخرجات النظام التعليمي في حد ذاته. *اعرب غالبية العاملين99% بمنشآت الصناعة عن رغبتهم في الاستمرار في العمل بمنشآتهم وعدم وجود الرغبة لترك العمل. *ضعف المرتبات وصعوبة ظروف العمل من اكثر الاسباب التي تجعل الشباب محجما عن العمل في الصناعة من وجهة نظر العاملين فيها واتفق معهم الشباب غير العامل وكذلك اصحاب الاعمال. سيد البرهمتوشي عضو غرفة صناعة النسيج باتحاد الصناعات يقول: تفاقمت الأزمة منذ ان اعلنت الحكومة عام1994 عن تحرير تجارة القطن وقتها ارتفع سعر القنطار من60 الي130 جنيها وترتب عليه خسائر للشركات كانت اكبرها شركة غزل المحلة التي تستهلك ما لا يقل عن مليون قنطار.. ومن وقتها حتي الآن20 عاما من المعاناة.. قطاع اعمال يتقلص ويضعف, تهريب يشتد ويتغلغل في الأسواق, ديون ومخزون متراكم يركد بالمخازن, خسائر تتوالي و50 مليار جنيه استثمارات تحوطها الأزمات والمشاكل. ويضيف ان تكلفة الانتاج ارتفعت في المصانع الخاصة بما لا يقل عن90 دولارا بعد ارتفاع اسعار خدمات البنية الأساسية, من مياه, وكهرباء, وغاز وندرة في العمالة اصبحت سمة اساسية رغم حالة البطالة التي تسود البلاد واصبح الصانع في قطاع الغزل والنسيج يعاني بشدة ولا يستطيع الافلات من الصنعة وليس أمامه سوي الاستمرار في الانتاج بخسائر او بالكساد, وتغطية النفقات, أما التاجر فقد عرف كيف يجاري المتغيرات, وتحول الي المستورد بعد ان فاضت الاسواق بالأقمشة المستوردة من سوريا وتركيا وايران والهند وباكستان وغيرها و90% يدخل مهربا في ظل استسلام واضح من الصناع. ويستطرد قائلا: هناك إصرار علي زراعة القطن الطويل التيلة رغم تغير الأذواق العالمية والتوسع في زراعة الاقطان القصيرة والمتوسطة التي اصبحت اساس صناعة النسيج, وبالتالي يجب التوجه نحو زراعة هذين الصنفين وحل مشاكل الصناعة العريقة قبل ان تغلق ابوابها بلا عودة خاصة ان هذه الصناعة تضم25% من عمالة القطاع الصناعي وكل فترة نشهد ونسمع عن حلول وتوجيهات, وخريطة طريق دون ان تتقدم صناعة الغزل والنسيج خطوة واحدة للأمام, فإما أن يتم مساندة هذه الصناعة أو تشييعها الي مثواها الأخير.. والابقاء عليها داخل المتاحف!!