في صباح شتوي بارد من أيام شهر نوفمبر1997 كنت أحد أفراد وفد صحفي يضم عددا من ممثلي الصحف المصرية والعربية يزور الولاياتالمتحدةالامريكية في اطار برنامج كان يطلق عليه حينذاك برنامج الزائر الدولي وكان الهدف منه هو تعريف الصحفيين العرب بجوانب الحياة السياسية والاقتصادية الامريكية والاطلاع علي وجهة نظر أمريكا في قضايا المنطقة. كان الوفد علي موعد لزيارة مؤسسة فريدوم هاوس الامريكية في العاصمة واشنطن والمهتمة بقضايا الحريات والديمقراطية بعد أن كنا قد التقينا بالعديد من مسئولي منظمات أمريكية سياسية واعلامية مشابهة منها اللجنة الدولية لحماية الصحفيين في نيويورك وغيرها. كنا اثنين من ممثلي الصحافة المصرية ضمن الوفد العربي أنا ممثل عن صحيفة الوفد المعارضة والزميل حسين ثابت ممثلا عن صحيفة الاهرام وكانت المترجمة المرافقة فتاة سودانية حصلت للتو علي الجنسية الامريكية وكانت دائما ما تفضل تقديمنا كمصريين أولا للمسئولين الامريكيين من باب وحدة وادي النيل. بدأ الاجتماع بمناقشة قضايا الديمقراطية وحقوق الانسان والحريات العامة ودور الصحافة في دعم هذه القضايا والتبشير بها في مجتمعات تعتبرها الولاياتالمتحدة أبعد ما تكون عن الديمقراطية وحقوق الانسان. ثم فجأة طرحت المديرة التنفيذية لمؤسسة فريدوم هاوس سؤالا علي الحاضرين لمعرفة ارائنا حول الصحف المحلية التي كنا قد زرناها ضمن الرحلة في عدد من الولاياتالمتحدةالامريكية خاصة ولايات الجنوب مثل تكساس, تينيسي, وفي قلب المناقشة ألقت بقنبلة لم نكن نتوقعها قائلة: * هل تريدون تكرار تجربة الصحافة الامريكية المحلية في بلدانكم؟ * وهل تريدون أن يكون لهذه الصحافة المحلية تأثير مثل الصحافة المحلية الامريكية؟ * وهل هناك صعوبات قانونية أو تمويلية لإنشاء مثل هذه الصحف في البلاد العربية؟ * وأخيرا وصلت الي بيت القصيد عندما قالت ونحن في فريدوم هاوس مستعدون لدعم تجاربكم في هذا المجال لمن يريد, مستعدون للدعم المالي والفني والتدريبي. ولأن معظم الزملاء الصحفيين العرب كانوا ينتمون لبلدان خليجية ولم يكن لديهم اهتمام بقضية الصحافة المحلية لاسباب جغرافية معروفة فقد ركزت مسئولة فريدوم هاوس حوارها معنا نحن المصريين ومعنا زميل ثالث من المغرب العربي وكان بالفعل يعمل في صحيفة مناطقية هناك. عند هذا الحد تنبهنا أن هناك غرضا مسبقا من ترتيب هذا اللقاء فقررنا دفع النقاش الي قضية الصحافة والحريات بدلا من التركيز علي ما يبدو مشروعا تسعي فريدوم هاوس لاطلاقه في بلادنا. كان هذا وقتا مبكرا لقضية استخدام التمويل الاجنبي والامريكي علي وجه الخصوص في اللعب السياسي والاعلامي في البلاد العربية بما يعني أن الفكرة قديمة والتخطيط كان جزءا من استراتيجة كبري رسمتها أجهزة المخابرات واذا كانت فكرة الصحافة المحلية التي كانت تدعو اليها فريدوم هاوس قد فشلت لأنها ربما وجهت للاشخاص الخطأ حيث لم يبد أي من الحاضرين حماسا للفكرة لاسيما أننا ذكرنا للمسئولة الامريكية أن صحافتهم المحلية التي زرناها هي صحافة خدمات بالدرجة الاولي وليست صحافة اخبار أو معلومات بالمعني المعروف فهي تمتلئ باعلانات البيع والشراء والسفر وتوزع مجانا علي منازل الامريكيين وتمول بالكامل من الاعلانات باعتبارها نشاطا تجاريا وأن تكرار هذه التجربة في مجتمعات محلية مغلقة في بلدان فقيرة مثل مصر أو المغرب لا يضمن لها النجاح. هذه الفكرة يبدو أنه جري تطويرها في مطبخ المخابرات لأننا وجدنا بعد ذلك ما يعرف بمبادرة كولن باول وزير الخارجية الاسبق في عهد بوش التي حملت عنوان الاعلام ونشر الديمقراطية في الشرق الاوسط وهي المبادرة التي تمخضت عن ظهور ثلاث صحف مصرية يومية وكذلك محطات فضائية واذاعة ومجلة شبابية, وتكررت التجربة في بلدان عربية أخري حيث ظهرت صحف جري تمويلها عبر آليات غامضة للكثيرين حتي بالنسبة للاجهزة الامنية القائمة في تلك الدول. لذلك لم يكن غريبا أن تنفجر قضية التمويل الاجنبي بعد ثورات الربيع العربي ولم يكن غريبا أن تظل هذه القضية مفتوحة حتي الآن.