بعد زيادة البنزين والسولار، محافظ المنوفية يعلن تعريفة الركوب الجديدة للتاكسي والتوكتوك    إعلام عبرى: حماس أبلغت الوسطاء بوجود جثث إسرائيليين على عمق 7 طوابق وقرب قنابل غير منفجرة    استقبال زيلينسكى فى الولايات المتحدة دون مراسم    فى مقابلة قديمة .. لماذا هاجم صهر ترامب "الصهيونى " محمود عباس بعبارات "مهينة" !    نجوم الجونة وشوشوا الودع على الريد كاربت وقالوا أسرار ومفاجآت.. فيديو    فى ذكراه.. منير مراد الموسيقار المنسى من وزارة الثقافة والغائب عن حفلات ومهرجانات الأوبرا    فلسطين.. الاحتلال يدمر سيارة مواطن خلال اقتحام حي المخفية في نابلس    إعلان الكشوف المبدئية لمرشحي انتخابات مجلس النواب 2025 بسوهاج "مستند"    انتفاضة بيراميدز تتحدى البركان المغربي.. من يفوز بالسوبر الإفريقي غدًا؟    أسماء المرشحين على مقاعد الفردي بدوائر محافظة الشرقية لانتخابات مجلس النواب 2025    فنزويلا تطالب مجلس الأمن بموقف حازم تجاه الضربات الأمريكية وانتهاك سيادتها    المخرج أكرم محمود البزاوي يعلن وفاة الفنان «أشرف بوزيشن»    عماد النحاس وجهازه المعاون يصل إلى بغداد لقيادة فريق الزوراء العراقي    الهيئة الوطنية للانتخابات تعلن أسماء المرشحين على النظام الفردي بانتخابات مجلس النواب    انطلاق البطولة المصرية المفتوحة للهواة وسط حضور دولي واسع يضم أكثر من 100 لاعب| فيديو وصور    الحفني: تعزيز السلامة الجوية أولوية تستهدف التشغيل الآمن وفق متطلبات الإيكاو    «مش صديقي.. وبقول اللي حسيته».. رد مثير من كريم نيدفيد بشأن هجومه على رمضان صبحي    القبض على المتهمين بارتداء ملابس فاضحة وارتكاب أفعال خادشة للحياء    إسرائيل ال3.. أسعار البنزين الأعلى تكلفة في العالم (قائمة ب10 دول)    فاروق جعفر يتغزل في نجم الزمالك.. ويؤكد: «قدراته الفنية كبيرة»    ستاد المحور: الكوكي يدرس الدفع ب صلاح محسن في التشكيل الأساسي أمام الاتحاد الليبي وموقف الشامي    سعر الأسمنت اليوم الجمعة 17 أكتوبر 2025 فى الشرقية    طقس حار نهارًا وشبورة صباحية خفيفة.. الأرصاد تكشف تفاصيل حالة الطقس الجمعة 17 أكتوبر 2025    «زي النهارده».. وفاة شيخ الأزهر الدكتور عبدالحليم محمود 17 أكتوبر 1978    عاجل- أمن المقاومة يحذر من الشائعات حول مصير أبو عبيدة وسط اتفاق جديد لوقف إطلاق النار في غزة    سعر الدولار اليوم الجمعة 17102025 بمحافظة الشرقية    اختبر ذكاءك ب10 ألغاز مع الحل.. هل تقدر تجاوب على الكل؟    عاجل - حريق أمام المتحف المصري الكبير قبل افتتاحه    أطعمة طبيعية تساعد على خفض الكوليسترول في 3 أشهر    حيلة لتنظيف الفوط والحفاظ على رائحتها دائمًا منعشة    لو عايز تركز أكتر.. 5 أطعمة هتساعدك بدل القهوة    أسماء المترشحين بنظام الفردي عن دوائر بمحافظة الغربية لانتخابات النواب    حبس متهم بقتل شقيقه فى قنا    الصحف المصرية: إسرائيل تماطل فى فتح معبر رفح    روسيا توسع أسواق نفطها وتستهدف إنتاج 510 ملايين طن    أوقاف الفيوم تعقد فعاليات البرنامج التثقيفي للطفل لغرس القيم الإيمانية والوطنية.. صور    جوتيريش يدعو للعودة إلى النظام الدستورى وسيادة القانون فى مدغشقر    رفضت إصلاح التلفيات وقبول العوض.. القصة الكاملة لحادث تصادم سيارة هالة صدقي    بحضور رئيس مجلس الوزراء.. وزير الشؤون النيابية يشهد ختام أسبوع القاهرة الثامن للمياه    «أفضل لاعب في مصر بمركزه».. فاروق جعفر يتغزل ب نجم الأهلي    أسعار الخضار والفاكهة في أسواق أسوان اليوم الجمعة    حماس: إعادة جثث الرهائن من غزة قد يستغرق وقتًا بسبب دفنها في أنفاق    ترامب: لقاء مرتقب مع بوتين في المجر لبحث حرب أوكرانيا    الحفني يشهد توقيع بروتوكول تعاون بين سلطة الطيران المدني وإدارة الحوادث    4 أبراج «مبيخافوش من المواجهة».. صرحاء يفضلون التعامل مع المشكلات ويقدّرون الشفافية    تركي آل الشيخ: «بدأنا الحلم في 2016.. واليوم نحصد ثمار رؤية 2030»    فضل يوم الجمعة وأعماله المستحبة للمسلمين وعظمة هذا اليوم    فضل قراءة سورة الكهف يوم الجمعة ووقتها المستحب    أدعية يوم الجمعة المستحبة للمتوفى والمهموم والأبناء    الداخلية تكشف ملابسات واقعة فيديو «التوك توك» بملابس خادشة للحياء    السيطرة على حريق سيارة ملاكي بميدان الرماية في الهرم    السيطرة على حريق داخل مخزن لقطع غيار السيارات بميت حلفا    تفاصيل لا يعرفها كثيرون.. علاقة فرشاة الأسنان بنزلات البرد    استبعاد هيثم الحريري من انتخابات البرلمان بالإسكندرية وتحرك عاجل من المرشح    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية الجمعة 17 أكتوبر 2025    الرعاية الصحية: المواطن يدفع 480 جنيه ونتحمل تكلفة عملياته حتى لو مليون جنيه    هل يجوز المزاح بلفظ «أنت طالق» مع الزوجة؟.. أمين الفتوى يجيب    هل الصلوات الخمس تحفظ الإنسان من الحسد؟.. أمين الفتوى يوضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يد من حديد لمواجهة: الضغط السكاني وتآكل الأرض الزراعية ونقص المياه

* المدينة هي التي تهبط بالقرية وليس العكس
* الضغوط السكانية باتت تعمل علي انحراف الاقتصاد المصري والسياسة المصرية والمجتمع المصري بل تشوه وجه مصر في الداخل والخارج وأحد أكبر عوامل تلوث البيئة المصرية ماديا ومعنويا في الريف والمدن في الإنتاج والخدمات
* الصراع الطبقي في الدول الفقيرة ليس بين العمال وأصحاب المال, وليس بين المصالح القومية والمصالح الخارجية, بل إنه بين الطبقات الريفية والطبقات الحضرية
* المضاربة علي الأرض والعقار هي نتيجة رئيسية للتضخم وهروب الناس من النقود, وقلة فرص الاستثمار المتاحة أمام رءوس الأموال الشخصية
* نظام الحسابات الوطني المستخدم في تقدير التقدم الاقتصادي لا يدخل استنفاد رأس المال الطبيعي ضمن هذا الحساب مثل استهلاك المنشأة والمعدات
* خريطة القاهرة الكبري ستصبح قرييا أكبر كتلة عمرانية وأكبر تجمع سكاني في العالم
--------------------
هناك حقيقة يجب أن نعيها جيدا وهي, أن الأرض والماء من الموارد الطبيعية التي تعتبر مصدر القوة لأي أمة بل للبشرية كلها, لذلك لابد من استخدام هذه الموارد الاستخدام الأمثل وتنميتها والمحافظة عليها بكل المقاييس جيلا بعد جيل.. فلم تندثر الحضارات المزدهرة في العصور السابقة إلا نتيجة إهمال استخدام الأرض والماء. ومن الحقائق المهمة التي يجب ألا ننساها في زحمة التغيرات السريعة والتحولات المصاحبة لها, أن الاقتصاد الزراعي كان بلا شك الأساس المتين لقوة مصر التاريخية, وكون مصر بلدا زراعيا ومجتمعا زراعيا في الماضي كان نقطة قوة وتفوق. ولا تكاد تكون هناك دولة استطاعت الشروع في تحقيق نمو اقتصادي علي أسس حديثة والمحافظة عليه دون أن تكون قد بدأت أولا باستغلال إمكانياتها الزراعية وتنميتها. وقد أوضحت تجارب التنمية خلال العقود الماضية بما لا يدع مجالا للشك أن انتشار الفقر وانعدام الأمن الغذائي بالمناطق الريفية في البلدان النامية كان في جانب كبير منه نتيجة لاستراتيجيات التنمية التي تغاضت عن أهمية تنمية القطاع الزراعي, وخصوصا إنتاج الأغذية الأساسية. ويتفق الكثيرون في أن بعض الأسباب الحقيقية لثورة يناير تعود إلي عقود من الفساد, وارتفاع أسعار الغذاء. وتزايد معدل النمو السكاني السريع. فارتفاع أسعار الغذاء كان تاريخيا الشرارة الأولي للثورات السياسية. والواقع أن الثورات الثلاث التي شكلت العالم المعاصر, في فرنسا وروسيا والصين, كانت الأسباب الرئيسية التي أدت إلي اندلاعها جميعا راجعة إلي نقص الغذاء, والخوف من الجوع. فأسعار الغذاء تعكس خطورة الموقف الحالي, لأن أسعارها تجاوزت حدود المعقول خاصة أن قضية الغذاء لا يعالجها المجتمع الدولي علي النحو الصحيح.. والتحدي الكبير الذي نواجهه الآن يكمن في ضرورة الحفاظ علي الأرض الزراعية من الزحف العمراني وفي ذات الوقت مراعاة حق المواطن في السكن الملائم, خاصة أن رصيد مصر من الأراضي الزراعية يبلغ8 ملايين فدان منها8,4 مليون فدان اراضي قديمة و2,3 مليون فدان أراضي جديدة. نحن أمام ظاهرة فريد في تاريخ المجتمع المصري يجب أن ندرسها دراسة عميقة لأن استمرار تلك الظاهرة سيؤدي إلي تدمير أحد عنصري الحضارة( الأرض) مع تعاظم خطورة العنصر الثاني- الماء- الذي ظهر لنا بكل ما يحمله من تحديات العصر. فالظاهرة الاجتماعية- كما يعلم الجميع- لها أسباب منها ما هو رئيسي ومنها ما هو ثانوي, بل إن السبب الواحد في الحقيقة سبب ونتيجة في نفس الوقت, أزمة الإسكان في مصر سببها الرئيسي هو المضاربة في العقار والأراضي, وهي نتيجة للتضخم وهروب الناس من النقود, وقد تكون نتيجة لقلة فرص الاستثمار المتاحة أمام رءوس الأموال الشخصية. والمشكلة عندنا أن كثيرا من دراسات الاقتصاديين الزراعيين وغيرهم اقتصرت في السنوات الأخيرة علي الجانب الاقتصادي للظاهرة أو المشكلة مجال الدراسة كذلك الحال بالنسبة للاجتماعيين.لقد نسينا دروس التاريخ لتحجيم المدينة, فالعلاقة الحميمة بين المناطق الريفية والحضرية تمتد بعيدا في التاريخ. كان سكان المدن اليونانية القدماء يدركون مدي اعتمادهم علي الخيرات الزراعية ولهذا سعوا لتحديد حجم المدينة عن قصد. ويصف لويس ممفورد المدن اليونانية بأنها صغيرة ومكتفية ذاتيا معتمدة علي أريافها في غذائها ومواد بنائها.
فالضغوط السكانية باتت تعمل علي انحراف الاقتصاد المصري والسياسة المصرية والمجتمع المصري بل تشوه وجه مصر في الداخل والخارج بصورة لا يمكن إنكارها. والواقع أن مشكلة مصر السياسية هي إلي حد ما مشكلة سكانية في التحليل الأخير. فالسكان عامل ضغط وعامل تشويه- عامل تحريف ومبرر انحراف أيضا إنها الآن أحد أكبر عوامل تلوث البيئة المصرية ماديا ومعنويا في الريف والمدن في الإنتاج والخدمات. إن شبح الأعداد المتزايدة من الشباب العاطل عن العمل الذين يجوبون الشوارع لا يعطي صورة هدوء اجتماعي. ويلاحظ محلل الشئون الخارجية السيد جورج أن جير' إذا سلمنا بما هو موجود, شباب عاطل عن العمل يجوبون الشوارع في دول يشكل من هم دون18 سنة نصف السكان, وليس هناك من أمل في الحصول علي عمل ويسود الجوع بينهم, إذن لا بد من التسليم بحدوث المزيد من الانفجارات السياسية في الأفق المباشر'. ويشير هوارد ويارد وعايدا سيكويرا من جامعة ماساشوشتس أن هناك علاقات عديدة بين النمو السكاني والنزاع في داخل المجتمع الواحد, وينشأ النزاع عندما تتنافس الأعداد السكانية علي المورد الطبيعي المتقلص وأن ازدياد التنافس والنزاع يدمر النسيج الاجتماعي.
لقد تحيزت الحكومات المتعاقبة للمدن علي حساب الريف. ويصف مايكل ليبتون المحلل للعلاقات الريفية- الحضرية في الدول النامية المشاكل الناتجة بقوله' إن أهم صراع طبقي في الدول الفقيرة في عالمنا اليوم هو صراع ليس بين العمال وأصحاب المال, وليس بين المصالح القومية والمصالح الخارجية, بل إنه بين الطبقات الريفية والطبقات الحضرية. فالقطاع الريفي يحتوي علي معظم الفقر وعلي معظم المصادر ذات التكاليف المنخفضة التي تؤدي إلي التقدم. ويحتوي قطاع الحضر علي معظم السلطة وأصحاب النفوذ' ونتيجة لهذا فإن الطبقات الحضرية قادرة علي ربح معظم جولات الصراع مع الريف, وبعملهم هذا فقد أبطأوا عمليات التطور وجعلوها لا تتصف بالعدالة. فالمدينة عندنا هي التي تهبط بالقرية وليس العكس كما تشير معظم الأبحاث السابقة. إن الخطر الحقيقي علي الأرض الزراعية إنما يكمن في العمران المدني سواء بمدنه ومصانعه وطرقه. ولعل الوباء الأخطر يكمن في تجريف التربة من أجل صناعة الطوب بعد توقف طمي النيل المتجدد وأن أخصب طبقة في التربة الزراعية هي النصف متر العلوي وأن الأرض لا تقدر بمساحتها ولكن بمكعباتها أي سمك طبقة التربة علي مسطحاتها. إننا نعاني الفشل في أهم جبهتين, هما وقف النمو السكاني وتآكل الأرض الزراعية بالبناء عليها أو تجريفها, ويأتي العامل الثالث ليزيد الأمر صعوبة وهو تغير المناخ. وللأسف أن نظام الحسابات الوطني المستخدم في تقدير التقدم الاقتصادي يدخل استهلاك المنشأة والمعدات ضمن الحساب, ولكنه لا يدخل استنفاد رأس المال الطبيعي ضمن هذا الحساب. فقد التربة السطحية لا يظهر في حسابات الاقتصاد الوطني ولا في مسح الموارد الطبيعية. فالقوانين التي سنها الكونجرس الأمريكي في عام1989 تلزم الحكومة الاتحادية بحساب' إجمالي الإنتاجية المتواصلة'.
لقد فقد العالم منذ منتصف هذا القرن ما يقرب من خمس سطح تربة أراضيه الزراعية. لهذا لا غرابة في الحملات الغربية علي أراضي إفريقيا في الآونة الأخيرة لأنها هي المنقذ الأخير والمتحكم الأخير في مستقبل البشرية الغذائي. ولقد أفاد تقرير صادر عن معهد أوكلاند وهو مركز دراسات في كاليفورنيا بأن مستثمرين أمريكيين وأوروبيين أثرياء يجمعون مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية في إفريقيا في صفقات لا تخضع للمساءلة وتعطيهم سيطرة أكبر علي إمدادات الغذاء لفقراء العالم. وقال التقرير إن من بين المشاركين في فورة الإقبال علي الأراضي صناديق تحوط ومضاربين وبعض الجامعات الأمريكية وصناديق المعاشات وهم يتطلعون إلي عائد علي الاستثمار يتراوح بين20 و40%. وفي إثيوبيا تشمل الحوافز التي تطرحها الحكومة إعفاءات من ضريبة الدخل وبنك حكومي للأراضي يمكن المستثمرين الأجانب من الحصول علي قطع كبيرة متجاورة من الأراضي. إن التغيرات الاجتماعية- الاقتصادية التي شهدتها مصر في الفترة الأخيرة والتي أدت إلي ارتفاع الدخول وزيادة العمران أسفرت عن تغيير أنماط استهلاك الأغذية, وبالتالي أنظمة إنتاجها. ومن ثم أصبح من الواضح أننا نعيش لكي نأكل ونسكن, في حين أنه ينبغي أن نأكل ونسكن لكي نعمل وننتج ولنستمتع بالحياة في نشاط أو آخر. وبعد أن كانت القرية تغذي نفسها وأصبحت تستورد غذاءها من المدينة التي تستورده من الخارج, ومعها تحول الاقتصاد المصري من اقتصاد إنتاج إلي اقتصاد استهلاك.
علينا أن نعيد مبدأ الأرض لمن يزرعها. وتشير معظم تجارب الاصلاح الزراعي التي حدثت في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية تشير إلي أن انظمة الحكم الحديثة فيها وقفت بهذا الاصلاح في بداية الطريق, واكتفت بالقضاء علي الملكيات الكبيرة للأرض وتوزيعها علي صغار الفلاحين والعمال الزراعيين وأهملت الإجراءات الإضافية المكملة للإصلاح الزراعي. ولم ينظر إلي التقدم الزراعي في ضوء علاقته بنمو الإنتاج والإنتاجية وبرفاهية الأغلبية الساحقة لأهل الريف وحل مشكلاتهم, لكن الطلب علي السلع الزراعية لابد أن يتزايد مع تزايد السكان والدخول النقدية, من هنا ينتهي الحال إلي أن ينمو استهلاك المواد الزراعية بأسرع من نمو الإنتاج الزراعي المحلي, ويكون الملاذ لهذا المأزق هو زيادة الاعتماد علي العالم الخارجي في تدبير هذه الموارد والضغط علي موازين المدفوعات والوقوع في فخ الاستقطاب الدولي لمن يملك الفوائض الزراعية الغذائية.
علينا أن نعي أن الأزمات التي تواجهنا ليست وليدة اليوم إنها تمتد أصولا وفروعا إلي أبعاد عديدة سابقة ولاحقة للاقتصاد, وإذا كانت معظم هذه الأبعاد محلية فإن بعضها عالمي ومستورد والبعض الآخر مستحدث, فهي في نهاية المطاف أزمة تخطيطية وسكانية اقتصادية سياسية. ولقد حذرنا في مقالات سابقة من لعبة الكردونات, والمتخللات التي تبتلع من فترة لأخري آلاف الأفدنة باسم تقنين الوضع الطبيعي, هذه اللعبة الساذجة والمكشوفة التي تفشت في العقدين الأخيرين علي كل المستويات يجب أن تتوقف فورا وإلي الأبد وإلا ستدمر البيروقراطية الجاهلة أرض مصر الخالدة. لو كانت هناك خطط للبناء لما كان هذا الإهدار في المساحات الزراعية, ولأمكن لذات المساحة ان تستوعب عددا مضاعفا من السكان لأن البناء المخطط أكثر كفاءة من البناء العشوائي. فلا يمكن أن نستمر في أن نمزق مصر إلي دولتين, الأولي هي الحضر وتجمعاته السكنية التي تحصل علي لقب' مدينة', وأن تقتصر اهتمامات وزارة الإسكان علي' جملة المدن المصرية' بينما النصف الآخر وهو' جملة القري المصرية' محجوب عن رؤية التخطيط لحجم مشكلة الإسكان. وأن موضوع تقدير حجم الوحدات السكنية المترتب علي الزيادة في السكان موضوع دقيق يحتاج إلي عمق وفكر للوصول إلي تقدير سليم, بدلا من أن نضع أرقاما فلكية بالملايين لا يمكن تحقيقها ولكنها تصبح ذريعة لفئات تكسب من وجود الأزمة.
ومن منطلق أن القاهرة أم الدنيا بالنسبة لشعب مصر وأن باريس, مازالت عاصمة النور والأضواء لسكان فرنسا كلها, لذلك كان تطبيق ونقل النمط الفرنسي مقبولا ومرحبا به في مصر. ومن ثم وقعنا في مصيدة المدرسة الفرنسية للتخطيط مرة ثانية, فحين أراد الخديو إسماعيل أن يجعل مصر قطعة من أوروبا فالذي حدث بالفعل أنه حاول أن يجعل القاهرة قطعة من أوروبا ولكنه في مقابل ذلك اعتصر كل موارد مصر إلي درجة الابتزاز بل رهن استقلال الوطن كله من أجل تضخيم نقطة واحدة فيه. وفي المرة الثانية قام الفرنسيون بالفعل بتخطيط القاهرة الكبري, ونفذوا مشروع الطريق الدائري حول القاهرة بدعوي أن سيحد من نمو القاهرة ولكن الواقع هو أنه تم بناء عدد من المستوطنات حول هذا الطريق الدائري. وكان الفكر التخطيطي المعلن يتوهم أن ذلك يهدف إلي خلخلة الكثافة السكانية لمدينة القاهرة أي إخراج بعض أو معظم سكان المناطق العشوائية الموجودة حول القاهرة إلي هذه المناطق الجديدة. ولكن الذي حدث ومازال يحدث أن هذه المناطق والمستوطنات الجديدة أصبحت مصدرا لجذب المهاجرين من القري القريبة والبعيدة الذين باعوا أخصب الأراضي الزراعية للانتقال إلي المناطق الجديدة كما أصبحت مصدرا لنزيف الاستثمارات الضخمة في وقت نشكو فيه من الديون. واصبحت القاهرة بالوعة الاستثمارات لمصر كلها وكانت السبب الرئيسي لغرق مصر في الديون والقروض, من أجل مشاريع الصرف الصحي ومحطات تنقية مياه الشرب والتوسع في محطات القوي الكهربائية. فمصر استدانت لتحسن البنية الأساسية للقاهرة أولا ولباقي المدن ثانيا. فهل آن الأوان لإعادة النظر في ضبط العاصمة حيث أتي تضخم العاصمة علي حساب البلد. وأدي هذا التضخم إلي فقر الدم الحاد في الريف.
وإذا نظرنا إلي خريطة القاهرة وما حولها من مدن ستجد أنه مع مضي الزمن سوف تلتحم القاهرة مع المدن التوابع لكي تصل إلي بنها والشرقية ثم تلتحم مع مدينة6 أكتوبر والفيوم بحيث تصبح هذه الكتلة العمرانية هي بالفعل أكبر تجمع سكاني في العالم. وهو ما يثير الكثير من المشاكل الاقتصادية والأمنية والعسكرية فالقاهرة الحديثة لم تخطط أصلا في القرن قبل الماضي إلا لتكون مدينة متوسطة معقولة الحجم ولكن سمح لها أن تنمو بفعل مزادات ومضاربات الإسكان وبتوجيه متعمد من الدولة عن طريق وزارة الإسكان وبنك التعمير والإسكان من خلال بيع أراضي الدولة أو استغلالها في بناء مدن جديدة وفيلات وقصور للطبقة المترفة, فهما مثل سائر البنوك لا تمول إلا الأغنياء الذين ليسوا في حاجة إلي التمويل. فهما وحدهما المسئولان عما حدث للعاصمة, فكل الأراضي التي تم تخصيصها للبناء هي أراض كانت صالحة للاستصلاح الزراعي بسبب التصاقها بالنيل, بالإضافة إلي أنها حولت مليارات الجنيهات من الاستثمار المنتج إلي الإسكان, خاصة أنه لا يحق لأحد بيع أراضي مصر دون أن يكون هناك نصيب عادل لكل المصريين فيما يتم بيعه بالتساوي, فكل شخص لابد أن تكون له حصة متساوية من الأرض يستطيع أن يبني عليها بيت أحلامه. فالضغوط السكانية باتت تحرف الاقتصاد المصري والسياسة المصرية والمجتمع المصري بل وتشوه وجه مصر في الداخل والخارج بصورة لا يمكن إنكارها. بل إن تلك الضغوط وراء ما يعرف بمشكلة التطرف الديني وما تبعه من مشاكل أضرت بمستقبل البلاد. وقد لمس المشير عبد الفتاح السيسي تلك الحقيقة, فبادر علي الفور بتنفيذ إنشاء مليون وحدة سكنية, وحتي قبل الإعلان عن برنامجه الانتخابي. فجزء كبير من مشكلتنا الحضارية والبشرية والاجتماعية والسكانية أننا, في عصر التطلعات الكبيرة الراهن, نريد مستوي معيشة الغرب دون مستوي حضارة الغرب, ومستوي الاستهلاك الأوروبي دون مستوي الإنتاج الأوروبي. فالصين أخذت من الغرب مستوي الإنتاج, ولكنها احتفظت بمستوي معيشتها المتواضع.
فهناك أسباب سيكولوجية وراء ظاهرة تكدس العاصمة: الأول هو التغير الحادث في مفهوم الناس بشأن مصدر القيمة في ظل اقتصاد متغير, والثاني هو الإيمان المتزايد لدي عامة الناس بأهمية العيش في القاهرة التي تحظي بمكانة خاصة لدي كل مصري. ويكمن السبب الثالث في النواميس الخاصة بالقوي المحركة للعدوي الفكرية. ولكن هناك سببا قل أن يشار إليه وهو بمثابة العنصر الأكثر تأثيرا في إصابة القاهرة بالشلل التام وهو عنصر التجارة غير المشروعة, حيث تمكن هؤلاء التجار من السيطرة علي مساحات شاسعة من الدولة أو حتي مناطق سكنية بأكملها داخل المدن الكبري. وكثير من المشترين يسعون إلي هذا القطاع لغسيل أموالهم ومن ثم لا يسألون عن أسعارها, فالسعر لا يهم لكن المشكلة أن هذه الأسعار ترتد علي سائر البلاد دون الوقوف علي حقيقتها المرجعية. وكل من هذه العوامل الأربعة يستحق قدرا أعظم من الاهتمام إذا كنا نريد أن نفهم الظروف الحالية لتآكل الأراضي الزراعية. فيتعين علي المصريين وغيرهم أن يضعوا في اعتبارهم أن الزيادة في أسعار المساكن لا تجعل أي بلد أكثر ثراء. أي أن ازدهار سوق الإسكان لا يخلق إلا وهم الثروة.. لكن الخطر الحقيقي ينشأ عندما يصبح الجميع مقتنعين بأن الاستثمار في العقارات هو أفضل وسيلة لتأمين مستقبلهم لأن أسعار المساكن لن تتجه إلا إلي الصعود. وهذا من شأنه أن يحث الجهات المقرضة علي تقديم قروض رهن عقارية. ذلك أن أسعار الفائدة المشوهة, والضمانات الرسمية, والإعانات الضريبية تشجع علي استمرار الاستثمار في قطاع العقارات, في حين يحتاج الاقتصاد إلي الاستثمار, في التكنولوجيا والطاقة النظيفة علي سبيل المثال. فضلا عن ذلك فإن مواصلة الاستثمار في قطاع العقارات تزيد من صعوبة الحد من إدمان الاقتصاد علي الاعتماد علي قطاع العقارات, وإدمان سوق العقارات علي الدعم الحكومي.
نحن نعيش أزمة أراض وإسكان بمعناهما الاقتصادي والاجتماعي وبالتالي فهي تشمل مفهوم الندرة, وارتفاع التكلفة وعدم تناسب القيمة مع دخل الأفراد أو مدخراتهم, وهذه الأزمة تتسع وتقفز أسعار الوحدات السكنية نتيجة المضاربة في العقار والأراضي. وذلك لهروب الناس من النقود وتدهور القوة الشرائية للعملة فعمد البعض إلي تحويل مدخراتهم إلي شراء الأراضي وتحويلها للإسكان, وقام البعض بأعمال التجارة والسمسرة وهذه كما أعتقد نتيجة مباشرة للتضخم.. لكن المشكلة تزداد سوءا في مصر فإلي جانب الأسباب السابقة لم نلمح من قريب أو بعيد في الأسباب الداخلية التي نشأت عن غزو الرأسمالية الجديدة حيث تحول الإقطاع الأرضي إلي الإقطاع المالي والتحول إلي نشاطات التجارة والسمسرة والمضاربة العقارية وفي التحول من الثروة إلي السلطة. إن كثيرا من مشاكلنا السياسية والاجتماعية هي نتيجة لفشلنا في التنمية. وتكمن الخطورة إذا عرفنا أن المتبقي في مصر من الأراضي القديمة تبلغ مساحته8,4 ملايين فدان. ومن ثم لابد من العمل علي وقف نزيف الأراضي الزراعية من خلال: طرح مجموعة من البدائل في هذا الشأن, البديل الأول التوجه إلي المدن الجديدة, ليست بامتداد العاصمة بل لابد من إنشاء مدن خارج كردون العاصمة في المناطق الصحراوية بمسافة لا تقل عن100 كم وليس20 أو30 كم. وأن تكون مدنا زراعية صناعية قبل أن نقصرها علي الإسكان فقط, والثاني الظهير الصحراوي الذي نادي به عالمنا الدكتور فاروق الباز, الذي استغرقت مناقشته أكثر من7 سنوات, ولو كان هذا المشروع في الأرض الزراعية لاستغرق أقل من أسبوع للموافقة عليه. والثالث الإحلال والتجديد في الكتلة العمرانية الحالية. والرابع الاتجاه إلي الصحراء واستصلاح الأراضي بعيدا عن الوادي القديم. البحث عن أسلوب آخر غير المتبع في إصدار تراخيص البناء, حيث وضح للجميع وجود ظاهرة غريبة.. اتجاه الحكومة واتجاه مضاد من الموظفين. ضرورة تقديم الدعم الكامل للفلاحين لمواجهة تدهور التربة وتحسين الإنتاج وعدم بيع الأراضي, فالدعم الزراعي موجود في كل الدول وفي أعتي الدول الرأسمالية. نحن محتاجون الآن إلي وقفة موضوعية مع النفس, نراجع فيها أوضاعنا الاقتصادية الداخلية, ونحاول أن نتفهم من خلالها جيدا الوضع الراهن لاقتصادنا القومي, وأن نفكر معا في رسم أسس فكر جديد تلائم مجتمعنا وتتمشي مع أوضاعنا وتقاليدنا الاجتماعية والحضارية, لكي يكون لنا هاد علي طريق الغد فكل ذلك أصبح أمرا لا غني عنه لكي نبني لمصرنا العزيزة اقتصادها القومي المتقدم. وأنا علي يقين أن مصر ستخرج من أزمتها بفعل الإرادة المصرية, وآن لها أن تثبت للعالم أن الشخصية المصرية فريدة ولديها القدرة علي أن تبدأ من جديد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.