وكانت المشكلة الحقيقية هي ليست في تزايد عجز الموازنة عاما بعد عام, أي زيادة المصروفات عن الإيرادات, ولكن المشكلة الحقيقية كانت في عجز الحكومة عن اتخاذ الإجراءات الصحيحة, لأنها إجراءات صعبة سوف تقابل باعتراضات شعبية, ولأنها ببساطة سوف تمس دخل الأسرة المصرية, وكانت كل حكومة تلقي العبء علي من سيأتي بعدها, وتتراجع كل الحكومات خوفا من غضبة أفراد الشعب, حتي جاءت حكومة محلب ووجدت نفسها ظهرها إلي الحائط ولا يمكنها أن تتراجع للخلف أكثر من ذلك بعد أن استنفدت كل وسائل المساعدات الخارجية. وعجز الموازنة يتطلب إما تخفيض المصروفات أو زيادة الإيرادات, وبالنسبة للجانب الأول فإنه شبه مستحيل أن تقترب منه الحكومة, لأن المصروفات تذهب كما يعلم الجميع إلي أربعة أجزاء هي: الأجور التي تزايدت, كمال قال وزير المالية هاني قدري100 مليار جنيه خلال3 سنوات, ومع ذلك فإن الدخل الحقيقي للأسرة كان ينخفض خاصة العاملين في الحكومة والقطاع العام, الآن العلاوة الدورية7% من الراتب الأساسي, بينما التضخم يزيد علي10%, وبالتالي لا يمكن الاقتراب من هذا البند. والثاني هو الدعم الذي يتزايد كل يوم وليس كل عام, فالدعم الغذائي للسلع الأساسية يتراوح بين22 و30 مليار جنيه, ودعم الطاقة كان مخططا له في الموازنة أن يكون100 مليار ثم140 مليارا, ووصل إلي ما يزيد علي300 مليار فعليا. والبند الثالث هو الأقساط المستحقة علي مصر لسداد الديون الخارجية والداخلية, التي أيضا تتفاقم قيمتها بشكل متوالية حسابية, والتي كان آخرها المساعدات الخليجية ونصفها منح لا ترد والنصف الآخر قروض واجبة السداد. أما البند الأخير فهو الاستثمارات القليلة التي تقوم بها الدولة في مجالات البنية الأساسية لمياه الشرب والصرف الصحي والمدارس والمستشفيات والإسكان الشعبي, وكلها ضرورية وتمثل الحد الأدني لما يجب أن تقوم به الدولة لتحقيق العدالة الاجتماعية. وفي ظل انخفاض معدل النمو إلي1.4% من الناتج المحلي وارتفاع معدل النمو السكاني إلي نحو2.2% والتضخم بنسبة تزيد علي10% وهو ما يعني زيادة الأسعار, وتفاقم عجز الموازنة, فإنه لم يعد أمام الحكومة إلا خفض نفقات البند الوحيد الذي يمكن التعامل معه وهو الدعم, خاصة في مجال الطاقة التي تذهب بالفعل إلي الجميع ولكن الأغنياء يستفيدون أكثر بحكم أن استهلاكهم من الوقود والطاقة واحتياجاتهم أكثر كثيرا من الفئات المتوسطة والفقيرة, ولكن يجب أن يسير مع ذلك بالتوازي تعويض الفئات المضرورة بشكل نقدي عن الخسائر التي سيتحملونها نتيجة ارتفاع أسعار الوقود, سواء في المواصلات العامة, أو نقل السلع الغذائية لأن المنتج سوف يلجأ إلي زيادة أسعار بيع السلعة أو الخدمة وتحميلها للمستهلك. أما فكرة فرض ضرائب5% علي الأغنياء التي أعلن عنها وزير المالية في مؤتمره الصحفي الأربعاء الماضي, فإنني أعتقد أنها تأتي في إطار الحلول السهلة التي كانت تلجأ لها الحكومات السابقة, وزيادة الضغط علي الصانع المستثمر الملتزم, بينما المتهربون من الضرائب لن يمسهم هذا القرار بسوء, وأعتقد أن الفكرة جاءت من رجال الأعمال أنفسهم ولكن من الذين يعملون في المناطق الحرة والمعفين من الضرائب أصلا, بينما المنتجون يعانون علي مدار3 سنوات لدرجة أن بعضهم طلب من الحكومة أن تتولي إدارة مصانعهم مقابل سداد الضرائب والتأمينات والأجور المستحقة عليهم. وزير المالية قال إن الوزارة والضرائب ليست مصلحة جباية ودلل علي ذلك بأن العائد من الضرائب لا يتجاوز14% من إجمالي الناتج القومي, وإذا افترضنا أن نسبة ال5% المقترحة سوف يتحملها كل دافعي الضرائب- وهذا غير صحيح- فإن العائد المتوقع سيكون نحو0.6% من مجمل الضرائب, وهو مبلغ لا يستحق مقابل الخسائر المتوقعة, من لجوء دافعي الضرائب إلي تزوير الفواتير وزيادة المصروفات وخفض الإيرادات. بينما كان علي وزارة المالية أن تبذل جهدا أكبر في وضع سياسات جديدة تساعد علي جذب الاقتصاد غير الرسمي الذي يصل إلي نصف حجم الاقتصاد المصري, ليصبح من دافعي الضرائب والتأمينات والجمارك بدلا من تهريب السلع والتهرب من دفع مستحقات الدولة, وأن تفكر الوزارة بمصالحها وهيئاتها في التيسير علي المستثمر الجاد الكبير والصغير ليتوسع في نشاطه ويستوعب عمالة أكثر بعد أن وصل عدد المتعطلين طبقا للإحصاءات الرسمية إلي نحو4 ملايين عاطل يمثلون حجم دولة أو أكثر من الدول العربية الصغيرة. لا أريد أن أحبط وزير المالية الذي يبدو أنه فاهم وجريء وقادر علي اتخاذ القرار الصعب, ولكن فرض ضريبة ال5% هو حل سهل لن يؤتي بثماره, بل سيزيد الأمور تعقيدا. [email protected]