لا اعرف مشروعا اقتصاديا حظى بهذا القدر من المزايدة والتشكيك مثل مشروع شق وتنمية قناة السويس، اما المشروع التالي له على اجندة المزايدين فكان ما اصطلح على تسميته بالعاصمة الادارية الجديدة. هذان المشروعان وغيرهما من المشروعات القومية التي اطلقها الرئيس فور انتخابه لاقت انتقادات متنوعة اغلبها للاسف يفتقد الجدية وينطلق من بواعث سياسية تستهدف احراج القيادة الجديدة والنيل من انجازاتها، وهى اكثر من كونها ملاحظات موضوعية تهدف الى تحقيق الصالح العام او تصويب مسار هذه المشروعات لتحقيق افضل عائد باقصى سرعة، وبأقل تكلفة ممكنة. هذه الملاحظات والانتقادات «الموضوعية « كنا من اوائل الذين اشاروا اليها فور الاعلان عن المشروع في قمة شرم الشيخ الاقتصادية، وفور عرض « الماكيت» الذى طرحته الشركة الاماراتية التى سعت لادارة المشروع؛ حيث جاء التصميم المعمارى للمخطط ليظهر العاصمة المقترحة وكأنها منطقة في سنغافورة او هونج كونج او دبي متجاهلا التراث الحضارى العريق الذى تتمتع به القاهرة، ويجمع بين احيائها الفاطمية والمملوكية ثم القاهرة الخديوية والحديثة، وقد كان حريا بالمصممين الهندسيين ان يضعوا كل هذا التاريخ في اعتبارهم وهم يصممون التوسعات الجديدة، ولكن هذا لم يحدث في التصميم الاول والذى اعرف انه خطأ تم تداركه بعد ذلك بحيث تأتي العاصمة الادارية متسقة حضاريا ومعماريا مع تاريخ القاهرة وتراثها الحضارى الذى يمتد عبر الف عام، وقد كان هذا الذى يهمنا، وقد تم. الامر الآخر الذى نال انتقادات موضوعية من الخبراء يتعلق بتكلفة تنفيذ مخطط الشركة الاماراتية والذى بلغ نحو 45 مليار دولار فضلا عن طرق التمويل، وقد كانت هذه الاعتبارات المالية ضمن اسباب سحب المشروع من الشركة الاماراتية واسناده في النهاية الى وزارة الاسكان مع خبرات القوات المسلحة وهيئاتها المعنية والتي تقوم بالاشراف على التنفيذ حاليا بمشاركة مئات الشركات المحلية وموفرة عشرات الالاف من فرص العمل في مختلف تخصصات التشييد والبناء، وهذا انجاز اقتصادى واجتماعى نحتاج اليه بشدة، وهو هدف اساسي لمشروع العاصمة وغيره من المشروعات القومية التي تجرى على قدم وساق الان. ومع ذلك فإن تحديات التمويل تظل هاجسا يشغل كل المهتمين بهموم الاصلاح المالي والاقتصادى في المرحلة الراهنة، وفي الحسبان ضعف موارد الدولة المالية ومحاذير الافراط في الانفاق العام حتى لاتزيد الاختلالات المالية عما هى عليه الان لمخاطرها المعروفة على سلامة الاقتصاد واستقراره. الانفاق على تنفيذ مشروع العاصمة الادارية لايزال يكتنفه بعض الغموض وهو مايوفر للمتربصين فرصة اضافية للنيل من المشروع والقائمين عليه، وقد كان ممكنا لاسباب موضوعية وأخرى تتعلق بمواجهة المزايدات السياسية تأسيس شركة تتولى المشروع اسوة بشركة الريف المصرى التي اسند اليها تنفيذ مشروع استصلاح وزراعة ال 1.5 مليون فدان؛ حيث يوفر هذا الشكل القانونى، فضلا عن الشفافية، مزايا اقتصادية ومالية مهمة بينها طرح اسهم المشروع للاكتتاب العام بما يوفر تمويلا سهلا اضافة الى اتاحة الفرصة لصغار المدخرين للمشاركة في الارباح المتوقعة من هذا المشروع الواعد والطموح، بالاضافة الى قدرة الشركة على اصدار سندات وطرحها في السوق والاقتراض من البنوك بعيدا عن الحكومة والخزانة العامة. اسناد مشروعات التعمير الى شركات له تاريخ طويل وناجح في بلادنا، ولا ننسى ان انشاء مصر الجديدة وتوسعاتها تم في بداية القرن الماضي عبر شركة اجنبية قبل تمصيرها وتمصير التجربة كلها، ففي قلب التجربة الاشتراكية في الستينيات جرى تعمير مدينة نصر وتوسعات المعادى وغيرهما عبر شركات انشئت لهذا الغرض وكانت التجربة ناجحة على وجه الاجمال، واليوم اصبحت لدينا تجارب وخبرات ثرية في التعمير بالمزج بين دور الحكومة والاستثمارات الخاصة »المهووسة« بالانشطة العقارية بانواعها. جانب كبير من الانتقادات التي توجه للمشروع ربما هي نابعة من الاسم الذى اطلق عليه، فشعار العاصمة الجديدة فتح المجال للحديث عن فقه الاولويات! وهل الاولى الان في ظل ضعف الموارد المالية الحالية بناء عاصمة جديدة او توجيه الاموال الى انشطة اخرى تعطي عائدا اسرع. والواقع ان المشروع ضمن رؤية عمرانية سليمة جرى وضعها موضع التنفيذ في نهاية الثمانينيات عبر التوسع بحدود القاهرة شرقا باتجاه قناة السويس وهو اتجاه يلاقى موافقة واستحسان خبراء التخطيط العمراني وهو التوجه الذى نشأت بموجبه المدن الجديدة حول القاهرة من اكتوبر وزايد وحتى الشروق وبدر والرحاب ومدينتي، وكلنا يرى حجم المكاسب العمرانية والاجتماعية والاقتصادية التي تحققت جراء هذا التوجه العمراني الذى تأخر تنفيذه كثيرا حيث تعد العاصمة الادارية الجديدة قفزة حضارية على طريق دفع حدود القاهرة نحو ضفاف القناة. الخبر الجيد انه قبل نهاية هذا العام وفقا لما ذكر لي احد المشرفين على المشروع سوف تكون هناك مبان ادارية وفنادق قد انتهى انشاؤها بالكامل، واصبحت جاهزة للاستخدام، وهذا في حد ذاته نجاح مهني واقتصادى من شأنه دفع الناس والاستثمارات للتحرك باتجاه هذه المنطقة الجديدة، وهنا يتحقق الهدف.