يمكن تشخيص جوهر مشكلة مصر الاقتصادية, التي تتفرع عنها جميع مشاكلنا في حقيقة بسيطة تقول إننا بلد فقير, يوجد فيه اختلال مستمر بين الموارد المتاحة ذاتيا وبين حجم الاحتياجات الفعلية التي يحتاجها شعبنا, أي أننا نعيش ونستخدم موارد أكثر مما نملك حقيقة. وهذا أمر لا يستقيم إلي ما لا نهاية. هنا يكمن لب الداء أساسا.. فكلما تزايدت احتياجاتنا الفعلية بحكم تزايد السكان وحقهم المشروع في غذاء صحي كامل ومسكن ملائم وفرصة عمل منتجة وتعليم واف..الخ, بينما قصرنا في تنمية مواردنا الذاتية وتطويرها تفاقمت الأزمة العامة وتفرعت إلي أنواع عديدة من الأزمات والمشاكل. وحكمة السياسة الاقتصادية في جميع دول العالم تقاس دائما بمدي تقليل الفجوة بين الاحتياجات وحجم الموارد المتاحة ذاتيا وبمدي التحسن الحقيقي الذي يتحقق في مستوي معيشة الشعب دون أن تستأثر بذلك طبقة أو فئة اجتماعية معينة والحقيقة أن تقليل فجوة الموارد هي المرادف لعملية التنمية وتعبئة الموارد وحسن استخدامها والتحسن الحقيقي في مستوي معيشة الشعب وخصوصا لذوي الدخول المحدودة, هو الترجمة النهائية لفكرة العدالة الاجتماعية والمقياس الصحيح الذي يقاس به مدي سرعة التقدم الاقتصادي والاجتماعي. ومن ثم يمكن أن نستخلص مجموعة من الأهداف التي نعتقد أنها تلقي قبولا واسعا من الشعب المصري وتستجيب لأمانيه في حياة أفضل: الوصول بالاقتصاد المصري إلي اقتصاد متقدم ومستقل وقادر علي النمو ذاتيا ويرفع دوما من مستوي معيشة الشعب المصري دون أن يستأثر بثمار هذا التقدم فئة أو طبقة معينة. وليس هناك عيب ولا غضاضة في أن تنزع الأقنعة من علي الوجوه, وأن تدافع كل طبقة أو فئة عن مصالحها فهذا أمر طبيعي ومشروع في كل مجتمع ديمقراطي, حيث لا يعتبر الفكر فيه تهمة ولا الدفاع عن المصالح جريمة لكن الجريمة الحقيقية هي حملات الغبار والأخبار الناقصة التي لا تجوز إلا علي البسطاء. لقد عشنا فترة طويلة ظل الخلاف بين من يريدون نظاما رأسماليا بلا حدود وبلا قيود وبلا ضوابط وبشكل لا يوجد حتي في الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا وبين الذين يريدون نظامنا الاقتصادي كنظام مختلط. إن إقحام موضوع الانفتاح والانغلاق بهدف إثارة التخويف والتهديد والضغط علي الحكومات المتعاقبة في وقت يملك أنصار' النظام الرأسمالي بدون ضوابط' القدرة علي التأثير والضغط بحكم المواقع التي يشغلونها في المجتمع وفي الأحزاب السياسية المختلفة وفي الصحافة لا يلبي احتياجات شعبنا. إذا أردنا أن يكون لمصر نموذجها الخاص في التنمية وأن تكون بين مصاف الدول المتقدمة علينا أن نتعلم من تجارب الآخرين ونسلك نهجهم, ولا نلتفت لمن يضغطون علي الحكومات المتعاقبة برفع شعارات تقف حائلا أمام تحقيق التنمية الحقيقية. هذه الشعارات محيت من النهوج الاقتصادية التي سلكتها الدول التي حققت تقدما مشهودا. في أعقاب الأزمة المالية سلكت الولاياتالمتحدة نهج تأميم المصارف وكانت أكثر يسارية من الذين ابتدعوه. فمن عجيب المفارقات أن يكون التأميم هو الحل الأكثر ملاءمة للسوق كما يقول نورييل روبيني أستاذ علوم الاقتصاد بكلية شترين لإدارة الأعمال بجامعة نيويورك فهو يخلص حملة الأسهم العاديين والمفضلين من المؤسسات المفلسة, بل وربما الدائنين غير المؤمنين في حالة إعسارهم عن تسديد مبالغ ضخمة, في حين يقدم جانبا إيجابيا بعض الشيء لدافعي الضرائب. بل ومن الممكن أن يعمل علي حل مشكلة إدارة أصول البنوك السيئة من خلال إعادة بيع أغلب الأصول والودائع مع توفير الضمانات الحكومية الكافية لحملة أسهم جدد من القطاع الخاص, بعد تطهير الأصول السيئة. والتأميم قادر أيضا علي حل مشكلة البنوك' الأضخم من أن تترك للإفلاس', التي تشكل أهمية كبري بالنسبة للنظام ككل, والتي يتعين علي الحكومة بالتالي أن تسارع إلي إنقاذها بتكاليف ضخمة يتحملها دافعو الضرائب. والحقيقة أن المشكلة تضخمت الآن, لأن الأسلوب الحالي في التعامل مع المشكلة أدي إلي استيلاء بنوك ضعيفة علي بنوك أضعف منها. ودعم هذا النهج برادفورد ديلونج أستاذ علم الاقتصاد بجامعة كاليفورنيا ببيركلي, وكان مساعدا لوزير مالية الولاياتالمتحدة أثناء ولاية الرئيس كلينتون بقوله' كل دول العالم المتقدمة تقريبا تتبع نظاما ديمقراطيا اشتراكيا, وهي كذلك حقا: أنظمة اقتصادية مختلطة تشرف عليها حكومات في غاية الضخامة تؤدي مجموعة عريضة من وظائف الرعاية والضمان الاجتماعي, وتزيل تكتلات الثروة الضخمة وتراكمات السلع من السوق. من المنتظر أن يشهد الجيل القادم تدنيا اجتماعيا هائلا للعديد من الأمريكيين. وإن النزاعات السياسية التي ستتولد عن هذا ستقرر ما إذا كانت أمريكا ستتحرك باتجاه نموذج الديمقراطية الاشتراكية الذي تتبناه الدول المتقدمة, أو ما إذا كانت ستجد وسيلة ما لقبول وتسويغ وجودها كدولة تواجه مخاطر اقتصادية بالغة وانقسامات عميقة ناجمة عن الدخل والثروة'. ولعل تجربة فرنسا في فترة معينة تؤكد الالتجاء إلي أي نهج مهما كان نوعه طالما أنه سيؤدي إلي رفع مستوي معيشة الشعب ويحقق التنمية المنشودة. فتجربة فرنسا إبان فترة حكم ميتران لهي شديدة الجاذبية للدول التي تخلفت عن الركب وأصابها ما أصابها من روشتات صندوق النقد الدولي. عندما تولت حكومة ميتران الاشتراكية السلطات في فرنسا وبدأت في تنفيذ البرنامج الذي وعدت به الشعب الفرنسي, إبان الانتخابات, فلما فازت بهذه الأغلبية قامت بتنفيذ ما وعدت به, فحولت بعض الأنشطة المالية والاقتصادية في البلاد للملكية العامة, فأممت البنوك وعددا من الشركات فأدخلتها في ملكية القطاع العام. أما ما لم تفعله السلطات الفرنسية فهو التأميم العشوائي لكل الشركات والمنشآت, بل تم التأميم علي أسس مدروسة فخص التأميم شركات ذات إستراتيجية محددة وردت في بيان الحزب الاشتراكي إبان الانتخابات ثم التزم به بعد ذلك. أكثر من ذلك فقد قامت السلطات إبان إجراء التأميمات بالإعلان عن تعويض حاملي أسهم الشركات التي أممت تأميما عادلا ومنصفا.. وأذكر في هذا الصدد أن البرلمان الفرنسي أمضي الأسابيع بل الأشهر في مناقشة مبدأ التعويض وكيفية التعويض ثم كيفية احتساب هذا التعويض, نوقش في البرلمان الفرنسي مناقشة موضوعية. أسفر عن صدور قانون يحدد تعويضا مجزيا للأسهم التي آلت ملكيتها إلي الدولة, تعويضا جعل قيمة تعويض بعض الأسهم تفوق سعر السهم في بورصة باريس.. لهذا السبب لم يتزعزع الاقتصاد الفرنسي ولم ينهر التعامل في بورصة باريس, بل انه شوهد علي أثر صدور قرارات التعويض أن ارتفعت أسعار بعض الأوراق المتداولة في البورصة لكي يتكيف سعر التعامل مع التقييم الذي أخذ به التعويض عن التأميم.. من ناحية أخري عملت حكومة ميتران الاشتراكية علي تشجيع المدخرات الصغيرة, فأعلن الرئيس ميتران عزم السلطات في إصدار دفتر توفير شعبي لصالح ذوي الدخول الصغيرة, مانحا إياهم العديد من المزايا التي لم يمنحها إياه أي من الحكومات الليبرالية السابقة ذات الميول الرأسمالية. تلت هذه الخطوة خطوات أخري تهدف أيضا تشجيع رءوس أموال متوسطي وكبار المستثمرين. واعدت السلطات الفرنسية مشروعا آخر تحت شعار' تطور الادخار وتشجيع الاستثمار الطويل المدي, وأطلقت علي هذا النموذج الاستثماري تعبير' حساب ادخاري في الأسهم' وقد يثير هذا الأسلوب الادخاري تعجب البعض لهذا التناقض البين بين سياسة التأميم التي نفذتها حكومة ميتران ثم تشجيع الاستثمار بعد ذلك في الأسهم. ليس هناك تناقض في الواقع بين إجراءات التأميم التي اتخذت وخطوات تشجيع الاستثمار في أسهم الشركات المساهمة.. فالتأميم الذي أجرته حكومة ميتران قصدت به أنشطة محددة ذات إستراتيجية خاصة في خطة التنمية الاقتصادية الشاملة التي أخذت حكومة ميتران الاشتراكية علي عاتقها تنفيذها.. ولكن مثل هذا البرنامج لا يتعارض مع قيام شركات مساهمة جديدة أو استمرار نشاط شركات مساهمة أخري قائمة تري الدولة تشجيعها أو إنشاءها. وكان الغرض الأساسي منها تنفيذ تلك الإستراتيجية التي تبناها الحزب الاشتراكي ألا وهي تمكين السلطات من تنفيذ برنامج تنمية محدد وكسر شوكة احتكار الشركات المتعددة الجنسيات, ولم يكن الهدف قط المصادرة أو الانتقام من أصحاب رءوس الأموال. ولذلك فقد كانت السلطات الفرنسية تشعر شعورا صادقا بأن التنمية الاقتصادية تقوم أساسا علي تنمية مدخرات الأفراد.. ولكنها كانت علم علي اليقين أن المدخرات الصغيرة وحدها لن تستطيع ملء الفراغ الاستثماري المطلوب.. لأن المدخرات الصغيرة التي تتكون عادة من فوائض الطبقات ذات الإمكانيات المحدودة لن تفي بالغرض فضلا عن كونها مدخرات ذات نفس قصير تسعي إلي تحقيق عائد سريع وليس لديها النفس الطويل للانتظار حتي تثمر الاستثمارات في المشروعات الطويلة المدي, وهي صفات تتميز بها رءوس الأموال المتوسطة والضخمة. وتم إصدار سندات تعويض ذات العائد المتحرك الذي يتمشي مع أسعار الفائدة السائدة في سوق المال بالنسبة للفرنك الفرنسي, وهي أسعار فائدة تفوق معدلات التضخم التي يعاني منها الاقتصاد الفرنسي كما تم إصدار سندات بالفرنك الفرنسي مقيمة بالذهب يحصل حاملها علي قيمتها عند الاسترداد بعد تقييم قيمة السند بما طرأ علي سعر الذهب من زيادة نتيجة لانخفاض قيمة الفرنك الفرنسي. كذلك تجربة دول أمريكا اللاتينية وإسرائيل التي أصدرت سندات مقيمة بالأرقام القياسية لأسعار المعيشة وبعضها الآخر بالأرقام القياسية لسلة من المواد الأولية أو الذهب. وفي المكسيك تم الربط بين القيمة الاستردادية للسندات وأسعار النفط السائدة في السوق العالمية. المهم أن جميع السندات التي أصدرت علي اختلاف أنواعها وطريقة استردادها راعت عدة نقاط أساسية: أن تكون أسعار الفائدة مرتفعة ومتغيرة بما يتمشي مع أسعار الفائدة السائدة في سوق المال المحلية, أن يفوق سعر الفائدة معدل التضخم في الدولة, ألا تكون طويلة الأجل بحيث تقتصر مدتها علي ما بين خمس وسبع سنوات. وتجربة البنك الدولي مع سوق المال الأوروبية, حيث إنه في جميع الحالات باستثناء السندات المقيمة بالذهب أو بالأرقام القياسية أو بأسعار سلة من المواد الأولية الخ فإن السندات تكون دائما معرضة لانخفاض قيمتها الاستردادية عن قيمة الاكتتاب بها, حتي بالنسبة لأقوي العملات مثل الدولار فقد أصدر البنك سندات دولارية مقيمة بالفرنك السويسري بفائدة سنوية نسبتها8,6%. ومهما حدث من انخفاص لقيمة الدولار فإن سعر الدولار في وقت الإصدار كان9,1 فرنك سويسري وهذا هو السعر الذي سيتخذ أساسا لتحديد القيمة الاستردادية للسندات بعد سبع سنوات وكذلك قيمة الفائدة التي ستدفع سنويا بالدولار, فمهما يطرأ علي الدولار من انخفاض في قيمته بعد ذلك فإن قيمة الاسترداد ستكون علي أساس السعر السابق ذكره ولصالح حامل السند في تاريخ صرف الاسترداد. كذلك هناك دراسات صادرة عن جهات دولية يعتد بها تعطي نصائح مباشرة للدول التي تريد اللحاق بقطار التنمية, خاصة بالشق المتعلق بالاستثمار الأجنبي, فتري أن وجود حصة كبيرة للاستثمار الأجنبي المباشر في إجمالي تدفقات رأس المال, يمثل علامة ضعف للدولة المضيفة. وأن أفضل سبيل عملي للدول الفقيرة هو أن تتفادي كلية الصناعات الاستخراجية الموجهة صوب التصدير, لماذا لا تفرض مصر ضرائب علي المبيعات للشركات الدولية بدلا من رفع أسعار الوقود في الداخل؟ وفي الآونة الأخيرة بذلت لجنة تابعة لمجلس الشيوخ في الولاياتالمتحدة جهودا حثيثة من أجل منع تنفيذ الخطط الرامية إلي تحرير قواعد حيازة الشركات الأجنبية للخطوط الجوية, بينما استنت أوروبا قوانين أكثر تقييدا للحيازات الأجنبية. وفي حالة المشاريع الضخمة سنجد أن بعض الدول المضيفة تثير العديد من التساؤلات بشأن العقود التي تحدد علاقتها بالشركات الدولية الكبري, كما تحرص الحكومات علي مراجعة مثل هذه العقود لأنها تعتقد( سواء عن حق أو خطأ) أنها لم تحصل علي صفقة عادلة. ويلاحظ أن الإيرادات الكبيرة المتأتية من مشاريع استخراج الموارد الطبيعية يمكن أن تحدث اضطرابات في الاقتصاد تكون ذات عواقب اجتماعية- سياسية سلبية. فهل نعي كل ذلك ونحن نسير بخطي ثابتة نحو إنشاء نموذج مصري للتنمية؟