تناولنا في الحلقة السابقة ضرورة أن يعترف صانع القرار بالتوجهات الفكرية للناس والبواعث التى تحكم سلوكياتهم، وبدون بناء الدعم الشعبى وتوفير آليات التنفيذ الملائمة فإن تغيير القوانين لايشكل عنصرا فعالا ، كما أكدنا على أن تكون الأولوية للأمن الغذائى نظرا لمتغيرات كثيرة ألمت بخريطة الغذاء العالمى ، وفى هذه الحلقة نناقش الآليات المختلفة لتمويل التنمية . وبتوافر نظم سليمة لإدارة عمليات التخزين وضمانات القروض، يمكن للمزارعين استخدام سلعهم، عند إنتاجها، بغرض تخزينها أو، وهو ما تفعله حاليا مؤسسة NCDEX فى الهند، لإنشاء "حسابات سلعية" أى حسابات يعبر عنها بالكيلوجرامات والأطنان من المنتجات التى يكون هؤلاء المزارعون قد خزنوها فى مخازن آمنة. ثم يمكنهم بعد ذلك استخدام إيصالات التخزين ذات الصلة كرهون، أو السحب من حساباتهم، من أجل الحصول على مبالغ نقدية أو شراء المدخلات. وهذا النظام يمكن المزارعين من ممارسة قدر أكبر من التحكم بقراراتهم التسويقية، حيث إنهم لا يعودون مضطرين لبيع منتجاتهم مباشرة بعد الحصاد وبالسعر السائد وذلك من أجل تلبية احتياجاتهم من التدفقات النقدية، بل يمكنهم بدلا من ذلك تخزين منتجاتهم والانتظار حتى تتحسن الظروف، كما يمكنهم الحصول على تمويل بضمان مخزوناتهم. ومن الأدوات الجديدة: "البطاقات الائتمانية" للمزارعين فقد نجح نظام دمج جميع المزارعين فى الهند ضمن إطار ائتمانى واحد من خلال توفير البطاقات الائتمانية للمزارعين، وهى بطاقات تتيح لكل مزارع خطا ائتمانيا لمدة ثلاث سنوات، ويتوقف حجم هذه الائتمانات على حجم حيازات المزارعين. ويحق لجميع المزارعين الحصول على البطاقات الائتمانية. وبلغ عدد المزارعين الذين حصلوا عليها حتى الآن نحو 43 مليون مزارع فقط، أى نحو ثلث مجموع المزارعين. ويؤدى توحيد إجراءات منح القروض إلى خفض التكاليف إلى حد كبير. وتعتبر تجربة كولومبيا من التجارب الناجحة فيما يتعلق بربط المزارعين مباشرة بسوق رأس المال من خلال البورصة السلعية لهذا البلد. وهذا النظام صالح للاستخدام لتمويل المحاصيل الزراعية وكذلك لتمويل تربية المواشى والدواجن. فمن الممكن الحصول على تمويل للمحاصيل التى يكون قد تم إنتاجها بالفعل (ومن ثم تخزينها فى مخزن معتمَد) ، ولتمويل تربية المواشى والدواجن التى تغذى من أجل بيعها لاحقا فى السوق. ومن خلال عملية "هندسة" مالية أساسية، يمكن لبعض المستثمرين، مثل صناديق المعاشات التقاعدية أو المستثمرين الأفراد، أن يتنافسوا فى عطاءات للحصول على "حق تمويل" المنتَج. ويقيم المستثمرون آجال السداد التى ينص عليها العقد، والفرق بين السعر الذى حددوه فى العطاء والسعر الذى يتوقعون الحصول عليه يساوى سعر الفائدة الذى يريدون تقاضيه. وتكفل البورصة السلعية أن تسدد للمستثمرين مستحقاتهم من خلال مجموعة متنوعة من الآليات . وقد ساعد هذا النظام المنتجين الزراعيين على اجتذاب رأس مال كبير وبمعدلات تقل بعدة نقاط مئوية عن تلك المعدلات المتاحة فى السوق المصرفية . إلا أن هذا ما كان ليتسنى لولا وجود نظام تخزين قوى ومنظم وحسن السمعة. وهناك تجارب ناجحة أخرى مثلا، يمكن إقناع صناديق المعاشات باستثمار مبالغ كبيرة نسبيا فى تمويل الهياكل الأساسية الريفية، مقابل الحصول على حقوق فى جزء من حصيلة صادرات المزارعين الذى سيستفيدون من تلك الهياكل الأساسية. وعادة ما يكون هؤلاء المستثمرون المؤسسيون مهتمين بالاستثمارات الأطول أجلا التى تكمل النهج الأقصر أجلا الذى تتبعه البنوك . إلا أن الخبراء لاحظوا أنه إذا كان الأخذ بهذا النهج ممكنا من الناحية العملية بالنسبة لمشاريع معينة (بما فى ذلك من خلال أدوات كإصدار سندات المشاريع) ، فإنه قد لا يكون من الممكن تعميمه ليشمل جميع فئات الإقراض خوفا من إمكانية تحول القطاع السلعى إلى قطاع تابع للقطاع المالى وهذا يمكن أن يجعل الأسعار تتحرك على أساس التطورات فى السوق المالية، وهو أمر قد لا يكون مقبولا عندنا . وعلى فئات المجتمع والحكومة أن يدركوا أن القطاع الخاص هو الذى يقف غالبا وراء مبادرات التمويل الزراعى الجديدة، ولكن هذه المبادرات تحتاج إلى حد أدنى من الدعم الحكومى. وعلى الحكومة أن تتأكد من أن الإجراءات المتخذة فى مجال التمويل الزراعى تشكل جزءا من خطط تنميتها الاستراتيجية، بما فى ذلك استراتيجياتها الخاصة بالحد من الفقر. وعليها أن توسع من قانون المشاركة مع القطاع الخاص الذى صدر منذ فترة، وأن تراجع لوائحها القائمة التى تمنع المزارعين من تقديم ضمانات للقروض. وينبغى لها أن تستحدث لوائح جديدة، مثل قانون خاص بإيصالات التخزين، من أجل توفير إطار قانونى وتنظيمى واضح للإقراض الزراعى. ومن ثم يقع عبء كبير على الحكومة والبنوك والقطاع الخاص فى زيادة حجم الائتمانات المتاحة للزراعة. والنقطة الأخيرة وهى الأكثر خطورة وعليها يتم تحديد الطريق الآمن للتمويل سواء للمشاريع الزراعية أو الصناعية، فهناك تجارب عدة طبقت فى الخارج، ولاقت نجاحا كبيرا ويمكن الاسترشاد بها لرفع المستوى الادخارى عندنا وتشجيع الاستثمار ذى المخاطر. ولعل النماذج الادخارية التى طرحتها الحكومة الفرنسة إبان حكومة ميتران. فعندما تولت حكومة ميتران السلطات فى فرنسا بدأت فى تنفيذ البرنامج الذى وعدت به الشعب الفرنسى إبان الانتخابات، بتنفيذه إذا ما فازت بأغلبية الحكم. فقامت السلطات إبان اجراءات التأميمات بالإعلان عن تعويض حاملى أسهم الشركات التى أممت تأميما عادلا ومنصفا حيث جعلت قيمة تعويض بعض الأسهم تفوق سعر السهم فى بورصة باريس. كما تم إصدار دفتر توفير شعبى لصالح ذوى الدخول الصغيرة مانحا إياهم العديد من المزايا التى لم يمنحها إياه أى من الحكومات الليبرالية السابقة ذات الميول الرأسمالية. وتلت ذلك خطوة أخرى تهدف إلى تشجيع رءوس أموال متوسطى وكبار المستثمرين، فأعلنت السلطات الفرنسية مشروعا آخر تحت شعار تطور الادخار وتشجيع الاستثمار الطويل المدى اطلقت على هذا النموذج الاستثمارى تعبير"حساب ادخارى فى الأسهم " وهو لا يتعارض مع اجراءات التأميم التى اتخذت. فالتأميم الذى أجرته حكومة ميتران قصد به أنشطة محددة ذات استراتيجية خاصة فى خطة التنمية الاقتصادية الشاملة، لكن هذا البرنامج لا يتعارض مع قيام شركات مساهمة جديدة. فسياسة التأميم التى نفذتها حكومة ميتران كان الغرض الأساسى منها تنفيذ تلك الاستراتيجية التى تبناها الحزب الاشتراكى ألا وهى تمكين السلطات من تنفيذ برنامج تنمية محدد وكسر شوكة احتكار الشركات المتعددة الجنسية، ولم يكن الهدف قط المصادرة أو الانتقام من أصحاب رءوس الأموال. كذلك التجربة الفرنسية فى إصدار سندات تعويض ذات العائد المتحرك الذى يتمشى مع أسعار الفائدة السائدة فى سوق المال بالنسبة للفرنك الفرنسى، وهى أسعار فائدة تفوق معدلات التضخم الذى يعانى منه الاقتصاد الفرنسى، فمقابل معدل تضخم فى فرنسا وصل إلى 14% سنويا وصل سعر الفائدة السنوى على الودائع التى ستمنحها الدولة الفرنسية لسندات التعويض 16.7% مثل هذه الفائدة تتضمن فى طياتها التعويض عما يفقده الفرنك الفرنسى من قوة شرائية ويترك للمدخر أو المستثمر هامش عائد إيجابى فى حدود 3% تقريبا. فالسندات ذات الفائدة الثابتة لن تكون مغرية فى وقتنا هذا. فالسندات ذات أسعار الفائدة الثابتة مهما كان هذا السعر مرتفعا فطالما هو ثابت فإنه يصبح غير مجز وخصوصا عندما يشعر المستثمر أو المدخر أن أمواله عرضة للذوبان وأن ما يحصل عليه كفائدة على سنداته بيد، يفقده باليد الأخرى فى صورة انخفاض فى القوة الشرائية لقيمة النقود، ويستفحل الأمر كلما كانت معدلات التضخم تزيد عن سعر الفائدة بكثير. وهناك التجربة البريطانية التى لا تختلف كثيرا عن التجربة الفرنسية، وتجربة أمريكا اللاتينية التى أصدرت سندات مقيمة بالأرقام القياسية لأسعار المعيشة وبعضها الآخر بالأرقام القياسية لسلة من المواد الأولية أو الذهب، وفى المكسيك تم الربط بين القيمة الاستيرادية للسندات وأسعار النفط السائدة فى السوق العالمية. المهم أن جميع السندات التى أصدرت على اختلاف أنواعها وطريقة استردادها راعت عدة نقاط، الأولى أن تكون أسعار الفائدة مرتفعة ومتغيرة بما يتمشى مع أسعار الفائدة السائدة فى سوق المال المحلية، والثانية أن يفوق سعر الفائدة معدل التضخم فى الدولة، والثالثة ألا تكون طويلة الأجل بحيث تقتصر مدتها على ما بين خمس وسبع سنوات. وفى جميع الحالات باستثناء السندات المقيمة بالذهب أو بالأرقام القياسية أو بأسعار سلة من المواد الأولية فإن السندات تكون دائما معرضة لانخفاض قيمتها الاستردادية عن قيمة الاكتتاب بها. حتى بالنسبة لأقوى العملات وذلك بنسبة ما يطرأ على العملات من انخفاض فى القوة الشرائية. ويمكن إصدار سندات بالجنيه المصرى مقيمة بالدوار الأمريكى أو بالفرنك السويسرى ولكن نحبذ الدولار لأنه هو الشائع لدينا. فمواردنا المتاحة فى الوقت الحاضر لا تمكننا من مواجه الإنفاق العام، فلا أقل من التفكير جديا فى الاهتمام بإصدار العديد من السندات المتعددة المزايا والأنواع بالنقد الأجنبى وبالجنيه المصرى وليس بخاف أن الأخذ بهذا الأسلوب فى تمويل النشاط العام أو الخاص يحمل فى طياته أيضا ترشيدا ويحد من التمادى فى الاقتراض وصيانة أموال المقرضين من تدهور قيمة النقود وبالتالى قوتها الشرائية وخاصة فى إطار الموجة التضخمية التى يعانى منها العالم وتبلورت فى ارتفاع أسعار معظم الخامات والمواد الأولية والمحاصيل الزراعية والسلع الوسيطة والاستهلاكية على كافة المستويات ليس من الإنصاف أن يحصل المقترض على قرض مقوم بالسعر الثابت وبفائدة تقل عن مستويات أسعار الفائدة السائدة فى السوق ثم يقوم بسدادها بنفس قيمتها بالأسعار الجارية فى تاريخ السداد وبعد كل ما تحملته هذه القيمة من تدهور فى قوتها الشرائية. وتتسع هذه الفروق كلمازادت مدة القرض . فإذا أخذنا فى الاعتبار معدلات التضخم فى إعادة تقييم قيمة القروض الممنوحة على سبيل المثال فإن جميع الأطراف ستحصل على حقها ممثلا فى القيمة المضافة الناجمة عن إعادة تقويم القيمة الثابتة للنقود إلى قيمتها الجارية فى طريق الاستحقاق. وبالتالى يتبين لنا أن هناك آليات كثيرة لتمويل التنمية يجب الأخذ بها خاصة تلك التى تناسب ظروف بلادنا press_ik@ yahoo.com