كانت هناك اتجاهات متعارضة داخل مجلس الوزراء حول ضرورة تهدئة الشارع واتخاذ إجراءات سريعة لتحقيق العدالة الاجتماعية والحد من حالة الضيق التي أصابت المواطنين نتيجة لارتفاع كثير من الأسعار وانخفاض القدرة الشرائية للجنيه, ومساندة الأسرة المصرية لمواجهة صعوبات الحياة وتوفير الاحتياجات الأساسية, في ظل ارتفاع أسعار الخضراوات واللحوم والألبان ومعظم السلع حتي الضرورية منها. وكان التعارض في مجلس الوزراء نتيجة لأن البعض يري أن زيادة دخل الأسرة تتطلب زيادة في الإنتاج حتي لا يترتب علي تلك الزيادة مزيد من الارتفاع في الأسعار وهو ما يسمي زيادة معدلات التضخم, وأن الزيادة في الدخول خاصة لموظفي الحكومة والقطاع العام الذين يصل عددهم إلي6.5 مليون موظف يعولون أكثر من30 مليون مواطن معناه ارتفاع العجز في الموازنة العامة للدولة وهو ما يتعارض مع خطة الحكومة لتخفيض العجز من نحو14% من حجم الناتج القومي إلي نحو10% خلال العام الحالي. وانتصر الرأي الآخر لتعلن الحكومة عن زيادة الحد الأدني للأجور إلي1200 جنيه علي أن يبدأ التنفيذ من أول يناير المقبل, مهما كانت نتيجة القرار لأن المخاطر الناتجة عن رفع الحد الأدني أقل كثيرا من مخاطر غضب الفقراء والجوعي. وجاء القرار غير مكتمل وبدون دراسة دقيقة لكيفية توفير الأعباء المترتبة علي زيادة الحد الأدني وهل توجد مصادر حقيقية للتمويل أم أن الحكومة سوف تضطر لطباعة أوراق البنكنوت وهي كارثة تؤدي إلي انخفاض قيمة الجنيه وموجة ارتفاعات جديدة للأسعار في المأكل والسكن وكل السلع والخدمات, وبالطبع لا يمكن تحديد التكلفة بدون معرفة من هم المستفيدون من تلك الزيادة.. هل حملة كل المؤهلات الذين يعملون في الحكومة والقطاع العام بدون مؤهلات أم هم فقط كما أعلن وزير التضامن الاجتماعي أن الزيادة فقط لأصحاب المؤهلات العليا, وماذا عن حملة الإعدادية والشهادات المتوسطة وفوق المتوسطة. ثم هل ستتم مساواة حديث التعيين بأصحاب الخبرات الذين يعملون بنفس المؤهل منذ عشرات السنوات. وتتداعي التساؤلات من جديد أيهما أكثر خطرا علي المجتمع محدودو الدخل الذين لا تكفيهم دخولهم لمواجهة كل أعباء الحياة أم نحو4 ملايين عاطل ليس لديهم دخل من الأصل, وألا يستدعي ذلك أن تفكر الحكومة في دفع إعانة بطالة حتي وإن كان مبلغا صغيرا ولمدة محدودة يتم خلالها تأهيل الباحثين عن العمل تبعا لاحتياجات السوق. وإذا كنا بالطبع مع تخفيف الأعباء عن محدودي الدخل, الا أن مفهوم تخفيف الأعباء يجب أن يتغير لدي الحكومة, لأن الأعباء ليست في زيادة الدخل فقط ولكن أيضا في خفض الأسعار والأهم هو توفير الخدمات مثل العلاج والتأمين الصحي وتحسين مستوي التعليم وهما السبب الحقيقي في تحميل الأسرة بالأعباء, وربما كان الأفضل بدلا من إعفاء الطالب من مصروفات المدينة الجامعية أو الرسوم المدرسية أن يتم تطوير تلك المدن وإنشاء فصول جديدة حتي لا يصاب أبناؤنا بالتسمم من مطابخ المدن الجامعية وأن توفر لهم حياة شبه كريمة في حجرات المدن الجامعية وأن تعمل المدارس فترة واحدة في فصول تستوعب30 طالبا بدلا من70 طالبا كما أعلن عدد من المحافظين مؤخرا. كان علي الحكومة أن تكون أكثر جرأة وتنظر إلي الاختلالات الهيكلية في السوق المصرية وأهمها كيفية دمج الاقتصاد غير الرسمي أو الاقتصاد الرمادي ليصبح ضمن الاقتصاد الأبيض الظاهر حتي يمكن مراقبته ومساندته للتطوير ومعرفة أهم العقبات التي تحول دون دمج هذا الاقتصاد. والاقتصاد غير الرسمي رغم أن حجمه في مصر كبير جدا ولا يقل في أكثر التقديرات تفاؤلا عن نصف الاقتصاد المصري ويزداد يوما بعد يوم, وهو ببساطة الاقتصاد الذي نراه من حولنا في الشوارع من الباعة الجائلين الذين يفترشون الأرصفة والذين ينتجون السلع تحت بير السلم والذين يبيعون سلعا هندسية مهربة في شارع عبدالعزيز وفي المحافظات وغيرها من السلع التي تهدد المنتجين المصريين وتحد من قدرتهم علي المنافسة, وفي نفس الوقت لا تستفيد الدولة من الجمارك علي هذه السلع أو الضرائب علي الأرباح الجنونية التي يحققها عدد قليل من المهربين وكبار التجار علي حساب الشعب الغلبان, وعلي حساب إيرادات الدولة الفقيرة. أول خطوة لدمج الاقتصاد غير الرسمي أو علي الأقل جزء منه هي إعفاء هذا القطاع من التأمينات الاجتماعية التي تثقل كاهل أي منشأة تعمل بشكل رسمي لأن صاحب العمل يتحمل ما يقرب من30% من قيمة الأجر ويتحمل العامل14% يتم سدادها للتأمينات. وهي تمثل عبئا كبيرا علي صاحب العمل وعلي العامل نفسه لدرجة أن العامل يفضل ألا يتم التأمين عليه بدلا من استقطاع قيمة حصته التأمينية من راتبه, وبالطبع قد يؤدي خفض تلك النسبة إلي النصف كحد أقصي إلي نقص الحصيلة في البداية ولكنها ستقضي علي التهرب من التأمينات وستؤدي في المدي القريب إلي زيادة الحصيلة ودمج كثير من المشروعات الصغيرة في الاقتصاد الأبيض الرسمي بدلا من العمل تحت الأرض. وأخيرا عاد التساؤل الملح لدي الجميع ثم ماذا عن الحد الأقصي للدخل وهل تخوفت الحكومة من الاقتراب من هذا الحد لأن كل أصحاب القرار تجاوزوا هذا الحد. [email protected]