في احدي مسرحيات الكوميديان الراحل' امين الهنيدي'.. ترددت العبارة التي أصبحت من أشهر الافيهات, ليس علي مستوي الفن فقط بل أيضا في مجالات الاقتصاد والسياسة والحياة العامة وهي عبارة:' علي حساب صاخب المخل'..! فهذه العبارة تقال, علي سبيل السخرية, ممن يتوهم أن هناك من يمكن ان يقدم شيئا دون مقابل لوجه الله والوطن.. فزمن الوجبات المجانية قد ولي.. وهو لا يوجد الا في المسرحيات وأفلام الابيض والاسود بتاعة زمان..! ففي الاقتصاد, تحديدا, لن تقدم لك أي دولة أو مؤسسة مساعدات أو قروضا من أجل سواد عيون حضرتك أو من باب الانسانية ومساعدة الانسان لاخيه الانسان..! ودعونا نتحدث, مثلا, عن' المعونة' الامريكية لمصر, وهي الاكبر علي مستوي المساعدات التي تقدم لنا, والتي نسمع بين الحين والاخر تهديدات بقطعها عقابا لمصر, لانها لم تنفذ ما تريده منها واشنطن.. او لانها قامت بإجراء, أو اتخذت موقفا يتعارض مع السياسة الامريكية, وكأن واشنطن قد اشترت مصر كلها بشعبها وحضارتها ومواقفها الوطنية بحفنة الدولارات التي تقدمها لها.. وليس سرا أن المعونة الامريكية, تشترط أن يتم التعامل مع الشركات الامريكية, وأن تكون السلع أمريكية, وأن تنقل من خلال شركات شحن امريكية, وان يتم استقدام خبراء امريكيين اذا كان المشروع الممول من المعونة يحتاج لخبراء.. وهكذا. وكل هذه الشروط, كما نري, تؤكد أن المعونة ليست لدعم الاقتصاد المصري وحده, لكنها لدعم الشركات الامريكية أيضا, ولذلك لا معني علي الاطلاق من التهديد بقطعها لانها في مجملها اذا كانت مفيدة للاقتصاد المصري, فهي مفيدة وبنفس القدر للاقتصاد الامريكي. ويمكننا أن نقيس علي ذلك كل القروض التي يثور حولها الجدل الان ليس في مصر فقط, بل في العديد من دول العالم كقبرص واليونان والبرتغال وإسبانيا وغيرها. فتعهد دول منطقة اليورو بدعم قبرص بمبلغ10 مليارات يورو للخروج من أزمتها المالية, لم يكن بمثابة وجبة مجانية للشعب القبرصي, بل اشترطت هذه الدول علي الحكومة القبرصية اتخاذ مجموعة من الاجراءات الصارمة علي الصعيد المالي والبنكي أدت لاحتجاجات واضطرابات في هذه الدويلة الصغيرة, مازالت مستمرة حتي الان. وفيما يتعلق بمصر.. فان هناك شروطا' قاسية' للقرض الذي يتم التفاوض حوله مع صندوق النقد الدولي.. وقد تحدثت عنها في نفس هذا المكان من قبل. وبالمناسبة كلمة' قاسية'.. هي أكثر تهذيبا من كلمة' قذرة' التي أطلقتها احدي الصحف الاقتصادية العالمية علي تلك الشروط.. والتي تتضمن, كما ذكرت الصحيفة, زيادة الضرائب ورفع الدعم عن الطاقة..الي آخر ذلك من الشروط التي يمكن أن تزيد من حدة الاضطرابات وعدم الاستقرار. ومن المهم هنا أن نعيد التذكير بأن ما يقوم به صندوق النقد هو أمر طبيعي بالنظر الي الدور الذي يلعبه منذ انشائه, وهو ان كان في ظاهره اقتصاديا, فإنه في واقع الامر له طابع سياسي أيضا.. وبالتالي فالصندوق لا يقدم وجبات مجانية لأحد.. فالفاتورة ليست علي' حساب صاخب المخل' بالتأكيد.. بل سيسددها الشعب المصري دولارا.. دولارا.. وسنتا..سنتا.. بالاضافة الي التكلفة الاجتماعية الباهظة للاتفاق مع الصندوق التي سيدفعها المجتمع كله علي حساب استقراره وأمنه ومن قبلهما مستوي معيشته الذي سيتأثر سلبا بالتأكيد. وفي تقديري اننا يجب أن نستشعر جميعا, ومن قبلنا ومن بعدنا الحكومة, خطورة تنفيذ شروط الصندوق في هذا الوقت بالذات, الذي لا تتحمل فيه البلاد أي اضطرابات أو ارتباكات جديدة, ولابد للحكومة ان تتعامل مع هذه القضية بأعلي درجات المسئولية, وتقدير الموقف تقديرا واقعيا, وألا تتسرع بتوقيع شيك علي بياض لصندوق النقد. كما يجب علي الحكومة أن تبحث عن بدائل.. وأن تستمع لكل الاراء بقلب وعقل مفتوح, لان الجميع شركاء في هذا الوطن. وأنا شخصيا سمعت رئيس اللجنة الاقتصادية بمجلس الشوري, الذي ينتمي لحزب النور, يتحدث عن بدائل عديدة جيدة يمكن أن تلجأ اليها الحكومة, لترشيد الانفاق وزيادة الموارد تغنينا تماما عن قرض الصندوق, لكن للاسف ترفض الحكومة مناقشة تلك البدائل أو حتي الاستماع اليها, فهي قد صمت اذانها, كما يقول, عن الاستماع لاي شيء إلا قرض الصندوق..! إنني أري أن الحكومة يجب ألا تتعامل بأنانية في هذه القضية الخطيرة التي ستتحمل أعباءها الاجيال القادمة.. فهي يجب ألا تفكر بطريقة' احييني اليوم وأمتني بكره'.. بحيث إن كل ما يهمها الان هو الخروج من المأزق الراهن بأي صورة مهما كانت التبعات في المستقبل القريب والبعيد; لانه ليس من العدل ان يتحمل الابناء والاحفاد أخطاء الاباء والاجداد.. فالفاتورة ستسدد ستسدد, وهي أبدا لن تكون' علي حساب صاخب المخل'; لان ذلك لا يوجد, للاسف, الا في أفلام ومسرحيات زماااان..لامؤاخذة..! ألا قد بلغت اللهم فاشهد.