' الحداية ما بترميش كتاكيت'..كان هذا عنوان المقال الذي كتبته في نفس هذا المكان منذ أكثر من سبعة أشهر.. و'الحداية' أو الحدأة, باللغة العربية الفصحي, هي طائر مصري جارح..انقرض أو كاد.. وأقصد بها هنا صندوق النقد الدولي..أما الكتاكيت فهي قرض ال8,4 مليار دولار الذي يدور الحديث حول منحه الي مصر..! وكان المعني هو أن الصندوق لن يقدم لمصر القرض دون شروط..بل إن هناك شروطا قاسية هي بمثابة تضحيات وفاتورة علي المجتمع كله..الفقراء قبل الاغنياء..أن يدفعها..! وانتقدت وقتها اثنين من كبار المسئولين قالا بملء الفم واكدا وشددا علي أنه لا توجد اي شروط من أي نوع لصندوق النقد.. والاثنان هما المتحدث الرسمي لرئاسة الجمهورية, وقد ترك منصبه وأصبح رئيسا لمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار, أما الثاني فهو وزير المالية, الذي تم تغييره في التعديل الوزاري الاخير.. وقد تكشفت الحقائق سريعا وثبت بالفعل أن هناك برنامجا للاصلاح أعدته الحكومة يتضمن حزمة من الاجراءات الصارمة التي من شأنها زيادة الاعباء علي المواطنين خاصة محدودي الدخل والطبقة المتوسطة..وتتضمن هذه الاجراءات, كما كتبت منذ سبعة شهور, رفع الدعم عن الوقود..وزيادة الضرائب..وبعض الاجراءت التقشفية التي من شأنها تخفيف حدة العجز في الموازنة العامة للدولة.. والحقيقة أن من تولوا الملف الاقتصادي الان من الوزراء الجدد أكثر شفافية وصراحة ووضوح في الحديث عما يجب أن يتحمله الشعب من تضحيات جراء تنفيذ هذا البرنامج..فالحديث يدور الان عن تحرير أسعار الوقود وتوزيع البنزين بالبطاقات الذكية بالنسبة للحكومة الشهر القادم.. وبالنسبة للمواطنين في شهر يوليو القادم..وهناك تسريبات وتصريحات منسوبة وغير منسوبة لمصادر عن تحديد ثلاثة أرغفة لكل مواطن.. وقيل خمسة.. في اطار اجراءات جديدة لترشيد دعم الدقيق..الي اخر ذلك من التسريبات التي تخرج من دهاليز الحكومة..! والحقيقة أننا يجب ألا نشغل أنفسنا كثيرا بالسؤال عن: هل هناك شروط للصندوق أم لا..؟ لكننا يجب أن نشغل أنفسنا بالسؤال الاهم وهو: هل نحن علي استعداد لتطبيق هذه الشروط أم لا..؟ بمعني اخر: هل الظروف الحالية وحالة الارتباك وعدم الاستقرار الراهنة مناسبة لتنفيذ حزمة الاجراءات الصارمة التي يشترطها صندوق النقد..؟ وقبل أن نجيب علي هذا السؤال يهمنا أن نشير الي أن العديد من دول الاتحاد الاوروبي, وهي بالتأكيد أفضل منا حالا علي الصعيد الاقتصادي, تعاني من قلاقل واضطرابات وأعمال عنف هذه الايام.. بل إن بعض أقاليمها, كما في حالة كتالونيا في اسبانيا, طلبت الانفصال احتجاجا علي الاجراءات التقشفية والفاتورة الباهظة التي فرضتها أو تعتزم الحكومات فرضها علي الشعب.! ورغم كل تلك المخاطر الا ان دولة, أو بمعني أدق دويلة, بحجم قبرص مثلا, فضلت الاضطرابات والقلاقل علي الافلاس فوافقت علي شروط منطقة اليورو الصارمة, ومنها زيادة الضرائب بصورة كبيرة للحصول علي قرض بعشرة مليارات يورو من الاتحاد الاوروبي.! والمعني أن الدول قد تقدم علي اتخاذ اجراءات قاسية قد لاتكون مقبولة شعبيا في سبيل انقاذ الاقتصاد والبلاد والعباد..ومن هنا علينا أن نعود لنسأل أنفسنا السؤال الاهم مرة ومرات: هل نحن مستعدون لسداد الفاتورة الباهظة الناجمة عن تنفيذ برنامج الاصلاح الاقتصادي..؟ في تقديري الشخصي وفي ضوء تجاربنا السابقة مع صندوق النقد الدولي..أعتقد أنه يمكن للحكومة أن تصل من خلال المفاوضات مع الصندوق لأفضل الشروط التي يمكن من خلالها تنفيذ برنامج الاصلاح بصورة تدريجية بما يتناسب مع الظروف والاوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الراهنة ودون أن تزيد الطين بلة علي الصعيد الامني والسياسي والاجتماعي.. ولا عيب علي الاطلاق في أن تستدعي الحكومة تجربة النظام السابق في هذا الصدد الذي لم ينصع كلية لشروط الصندوق الصارمة التي هي في أغلب الاحيان روشتة واحدة لا تتغير تدور حول إلغاء الدعم وتحرير أسعارأي شيء وكل شيء وإعمال آليات السوق الي آخر تلك الروشتة المحفوظة عن ظهر قلب.. دون مراعاة لظروف وخصوصيات كل دولة..! ولابد من تذكير مسئولي الصندوق بالنجاح الذي حققه برنامج الاصلاح الاقتصادي المصري السابق والذي كان السبب الرئيسي في نجاحه هو المواءمة بين شروط الصندوق وبين تنفيذها تدريجيا بما يتناسب مع الظروف المصرية. من هذا المنطلق لا يوجد أي مبرر لقيام الحكومة بتحرير اسعار الوقود بالكامل ودفعة واحدة..لان ذلك قد يؤدي الي المزيد من الاضطرابات التي هي اخر ما نحتاج اليه الان..بل من الممكن تحرير جزء من الاسعار في الوقت الراهن..بحيث لا يشعر بها المواطن واستبعاد فكرة الحصص والتوزيع بالبطاقات الذكية والغبية..لانها ستزيد الوضع ارتباكا وستزيد نقمة المواطنين علي الحكومة بل والنظام كله..! كما يمكن للحكومة أن ترشد دعم الدقيق كما تشاء لكن دون أن تستفز الشعب بالحديث عن الحصة اليومية لكل مواطن وهل هي ثلاثة أرغفة أم خمسة..! نعم.. الاصلاح الاقتصادي شر لابد منه.. لكن علي الحكومة أن تخفف من اثاره قدر المستطاع علي الشعب حتي لايفلت منها الزمام ثم تندم وقت لا ينفع أي ندم..!