أبقت مؤسسة «فيتش» فى تقريرها الصادر الاسبوع الماضى على تصنيف مصر الائتمانى عند مستوىB مع نظرة مستقبلية مستقرة بالنسبة للقدرة على سداد الديون الخارجية وهو مستوى متوقع ومقبول فى ضوء مجمل الظروف التى نمر بها، وهو على كل حال مستوى افضل مما كنا عليه قبل عامين ويفوق دولا عدة من تلك التى تمر بأزمات اقتصادية كاليونان مثلا، ومع ذلك فقد بررت فيتش تصنيفها فى ضوء تقديرها بارتفاع الدين العام فى العام المالى الجديد الى 96 ٪ من الناتج المحلى الاجمالى الذى سيصل وفقا لتقديرات وزير التخطيط الى 3.3 تريليونات جنيه. وبالاضافة الى تأثير انخفاض سعر صرف الجنيه، رجحت «فيتش» ان يستقر عجز الموازنة الجديدة عند 11.6 ٪ مقابل تقديرات وزارة المالية البالغة نحو 9.8 ٪ ، واعتبرت مؤسسة التصنيف ان ابرز اسباب استمرار التضخم فى عجز الموازنة يعود الى عجز الحكومة عن تطبيق ضريبة القيمة المضافة طوال السنوات الماضية.. الموازنة الجديدة التى تجرى مناقشتها الان فى مجلس النواب تضع فى اعتبارها ايرادات القيمة المضافة التى لم يصدر القانون الذى ينظمها بعد. وتبلغ الحصيلة المتوقعة لهذه الضريبة الحائرة نحو 35 مليار جنيه بنسبة تعادل 1.1 ٪ من الناتج المحلى الاجمالي، وهى نسبة كبيرة بالنسبة لنوع واحد من الضرائب. حصيلة الضرائب المقدرة فى موازنة 2016-2017 تبلغ نحو 434 مليار جنيه فى مقابل حصيلة تبلغ اقل من 400 مليار جنيه فى الموازنة الحالية التى جرى تعديلها بالخفض قبل عدة شهور لسبب يتعلق هو الاخر بالعجز عن تطبيق ضريبة القيمة المضافة خلال سريان الموازنة الحالية. ضريبة القيمة المضافة تعد المرحلة الثالثة والنهائية من تطوير ضريبة المبيعات ولها مزايا عديدة، وفضلا عن دورها فى تمويل الموازنة والحد من العجز فإنها تضفى مزيدا من الشفافية على عمليات الاستهلاك والانتاج وتمتد بشمولها للتعاملات البينية للمنتجين ومقدمى الخدمات والاهم انها تساعد فى محاصرة الاقتصاد غير الرسمى وادماج كثير من الانشطة ضمن الاقتصاد الرسمى وهو هدف دائم من اهداف التنمية المستدامة والصحية. العيب الوحيد فى هذه الضريبة يكمن فى تأثيرها على الاسعار النهائية للسلع والخدمات ولهذا السبب وحده جرى التلكؤ فى اصدارها منذ عام 2009 وبالطبع ازدادت صعوبة تطبيقها بعد ثورة يناير.. وحتى الان. لا أحد يقلل من الصعوبات التى يمكن توقعها جراء سريان العمل بالضريبة الجديدة، خاصة ان الاسعار هى الشكوى المرة من غالبية المصريين وهى ايضا الشغل الشاغل للحكومة وفق توجيهات رئيس الدولة الصارمة بضرورة تجنيب محدودى الدخل أى اثار ناتجة عن اجراءات الاصلاح الاقتصادى الراهنة.. باختصار فإن ضريبة القيمة المضافة مطلوبة فنيا ومرفوضة سياسيا ولهذا السبب جرى التلكؤ فى تطبيقها لنحو 7 سنوات متتالية. غير ان هذه السنوات ايضا هى التى شهدت زيادة منتظمة ومستمرة فى عجز الموازنة وادت الى تضاعف الدين العام لما يقترب الان من 3 تريليونات جنيه دون احتساب الزيادة المتوقعة فى العام المالى الجديد، وتبلغ قيمة خدمة الدين فى الموازنة الجديدة نحو 329 مليار جنيه وهو رقم غير مسبوق يعادل تقريبا ثلث مصروفات الموازنة البالغة 936 مليار جنيه، وهذه احوال لا ينبغى استمرارها وتتطلب حلولا متعددة لمحاصرتها والسيطرة عليها لعواقبها المعروفة على الناس وعلى الاقتصاد.. وعلى تصنيف مصر الائتمانى الذى على ضوئه تتحدد علاقتنا التجارية مع العالم، وعلى رغبة المستثمرين فى القدوم والاستثمار فى مصر. وفى هذا الاطار فإن مواجهة أزمة عجز الموازنة والدين العام تتطلب بالطبع ما هو اكثر من فرض ضريبة القيمة المضافة، وضرورة البحث عن موارد جديدة للموازنة، وربما هى تحتاج الى دراسة ضرائب جديدة وفعالة على الشرائح العليا فى المجتمع لا تمس محدودى الدخل كما ان الامر يتطلب انضباطا اشد فيما يتعلق بالانفاق العام. غير ان الضريبة المقترحة يمكن ان يكون لها اثر مادى فى اقناع مؤسسات التصنيف والمؤسسات المالية الدولية التى نرغب فى توثيق علاقتنا بها وان هناك جهودا حقيقية للاصلاح يجرى اتخاذها رغم الصعوبات الاقتصادية ورغم ارتفاع تكاليف الحياة على الشرائح الاقل دخلا فى المجتمع. من المتوقع ان يشهد قانون القيمة المضافة عاصفة من النقاش والاختلافات خلال مناقشته فى مجلس النواب هذا الشهر وربما تتغلب الفئة التي تغلب السياسة على الاقتصاد ويتم ارجاء فرض الضريبة لوقت لاحق، غير ان المسئولية السياسية والوطنية ينبغى ان تفرض نفسها لأن الحقائق تؤكد ان التلكؤ فى مواجهة أزمة عجز الموازنة سوف تنعكس سلبا على الجميع بمن فيهم الشرائح العريضة الاقل دخلا، ولا ننسى ان جزءا من اسباب الغلاء الذى نعيشه اليوم هو محصلة التراخى المتراكم فى التعامل مع الأزمات المالية والنقدية، ولا شك انه لو كانت الحكومة فى 2009 شرعت فى مواجهة اثر ارتفاع عجز الموازنة الذى بلغ 8.5 ٪ وقتها وكذلك قام البنك المركزى بتحريك اسعار الصرف بعض الشىء مع انفجار احداث يناير لكان الوضع ايسر الان على الدولة.. وعلى الناس. الرئيس السيسى، وفى اجراء غير مسبوق بالنسبة لرئيس جديد، قرر رفض موازنة 4102-5102 وردها لحكومة ابراهيم محلب لانها تحملت عجزا يصل الى 243 مليار جنيه، وفى سبيل خفض العجز الى 200 مليار قررت الوزارة وقبل الناس ارتفاع اسعار البنزين والمحروقات بنسب معقولة لأنهم فهموا ان هذا امر حيوى ويستهدف اصلاح الاحوال ووقف التدهور. واليوم نحن فى حاجة الى اجراء مماثل حتى وان كان الوقت اكثر صعوبة، ويمكن لمجلس النواب ان يتدخل عند مناقشة القانون لخفض سعر الضريبة او اعادة النظر فى تطبيقها حتى يكون تأثيرها على محدودى الدخل فى حده الادنى.. هذا ليس دفاعا عن ضريبة القيمة المضافة فالذين اعدوها اولى بالدفاع عنها ولكنه دفاع عن قيمة المواجهة الصارمة والواقعية لمشاكلنا دون رتوش ولا مزايدة، فالاصلاح شاق ويحمل قدرا من الآلام ولكن التراخى عن ممارسة اجراءاته اشد خطورة وايلاما خاصة على الفقراء ومتوسطى الدخل.. وهذا ما يجب ان يفهمه الجميع. حكومة فقيرة.. وشعب يعج بالأغنياء سواء كان الامر «لعبة «مسوقين او ابتكارات مديرى مبيعات فإن ما حدث الاسبوع الماضى عند حجز وحدات سكنية تقترب من مليونى جنيه للشقة فى ضواحى القاهرة يؤكد ما هو ثابت ان اسواق العقارات هى الاكثر اغراء لشرائح عديدة من المصريين الذين يملكون مدخرات يحتارون فى توظيفها او ان الطلب على الاسكان الفاخر يتعدى كثيرا ما هو فى مخيلة المخططين العقاريين. شركة خاصة تعلن عن مشروع «على الارض» فى ضواحى مدينة نصر بنظام «الكومباوند» فيأتى الناس منذ الفجر لدفع مقدم الحجز البالغ 100 الف جنيه، وعند الظهيرة يتمكن 3 الاف حاجز من دخول مقر الشركة لبدء الاجراءات، فيما يظل اضعاف هذا العدد فى الخارج «يقاتلون» من اجل الدخول لمقر الشركة وسط الحر والعرق كما يظهر الفيديو الذى صوره احدهم ليكشف حجم الهوان الذى تعرض له الآلاف جريا وراء فرصة اقتناص شقة يصل سعر المتر المربع فيها الى 7 الاف جنيه سرعان ما قررت الشركة بسبب الاقبال المخيف زيادته الى 8 الاف، وهى بالتأكيد ليست الزيادة الاخيرة. هذا المشهد الموحى لابد ان يتمعن فيه المسئولون عن "بيزنس" العقارات فى بلادنا، فالامر اكبر من وزارة الاسكان او مخططى العمران، انه سوق ضخم يحتاج الى مزيد من التنظيم والضبط حتى يمكن تعظيم الاستفادة منه للناس.. وللاقتصاد. وفى ضوء الخبرات السابقة حققت المضاربات العقارية ثروات مهمة لكل من دخل هذا السوق كمالك او كمقاول وكذلك المنتفعين، كلنا نعرف عن قصص لالاف من مشترى الاراضى والفلل والوحدات السكنية الذين حققوا ثروات طائلة عند اعادة بيعهم لما اشتروه قبل عدة سنوات، وقد كان هذا مغريا للاخرين الذين يبحثون عن توظيف افضل لاموالهم لأن يحذوا حذو مضاربى الصدفة وهكذا اجتذبت سوق العقارات عشرات الالاف كل عام ولا تزال التجربة مغرية بدليل ما حدث الاسبوع الماضى فى مدينة نصر. لقد كان معروفا ان المتاجرة فى الاراضى والشقق التى تطرحها هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة وصلت الى حدود تفوق الوصف ورغم كل الضوابط التى تضعها الهيئة لمنع المضاربة على اراضيها ووحداتها السكنية فإن عمليات البيع والشراء تجرى كل يوم «باختراعات» قانونية فوق ادراك موظفى الهيئة، واصبحت هناك مكاتب سماسرة تدفع مبالغ تصل الى الملايين لكل من اسعده الحظ فى الفوز بقطعة ارض من اراضى المدن الجديدة، ومبالغ اقل للشقق التى يتم حجزها بدفعات مقدمة محدودة، الجديد ان هذا الامر انتقل الان الى الشركات الخاصة على نحو ما عرفنا مما حدث الاسبوع الماضي. المذهل ان هذه المضاربات التى تجرى على قدم وساق كل يوم تجرى بعيدا عن وزارة المالية ومصلحة الضرائب وبدلا من اللهاث وراء تحصيل ضريبة عقارية على شاغلى الوحدات السكنية أليس من الاولى سن قانون يفرض ضرائب تصاعدية على التصرفات العقارية من هذا النوع على الاقل من باب محاربة المضاربة التى ترفع الاسعار على صاحب الحاجة الحقيقية فى السكن، اما هؤلاء الذين يحتاجون الى السكن المميز فاذا كانت الدولة مشغولة باسكان الفقراء ومحدودى الدخل وهذا طبيعى الا انها يجب ان توفر المناخ المناسب لضخ الاراضى اللازمة لمقابلة هذا الاحتياج المتنامى للسكن الحر فيكسب الجميع وفى مقدمة الرابحين الاقتصاد الوطنى. أما مساعدة اصحاب المدخرات فى توظيف اموالهم فى انشطة اكثر جدوى للاقتصاد فهذه قضية اخرى.. ولكنها قضية مصيرية.