كان المشهد رائعاً، فى آخر ساعات اليوم الثلاثين من شهر يونيو 2012، هناك فى الهايكستب، حيث سجل التاريخ الحدث الفارق فى مسيرة الوطن، لحظة تسليم السلطة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى الرئيس المدنى المنتخب الذى يبدأ مرحلة الجمهورية الثانية بعد ستين عاماً هى عمر الجمهورية الأولى التى بدأت بعد ثورة 25 يناير 2011. وبرغم حرارة الطقس وقسوة الشمس فإن السعادة التى غمرت الجميع أحالت الحرارة نسيماً وبرداً وسلاماً على الجميع من حضور الحفل الذى أقامته القوات المسلحة للرئيس الجديد الذى أعرب عن سعادته حتى بقسوة الشمس معتبراً حرارتها مصدر قوة للوطن ورجاله. إن يوم الثلاثين من يونيو سجل فى كتاب التاريخ كيوم من أيام الوطن الخالدة، ففيه أوفى الجيش بوعده وسلم الأمانة غير منقوصة برغم ادعاءات البعض على الإعلان الدستورى المكمل، فاستحق التحية والتقدير كما استحق الرئيس الجديد التهنئة مصحوبة بالدعوات له بالتوفيق والسداد لما فيه خير مصر وشعبها. وبدأت مرحلة البناء ذهبت السَّكرة وجاءت الفكرة، بعد أن أسدل الستار على مراسم تسليم السلطة إلى أول رئيس مدنى منتخب فى تاريخ مصر القديم والحديث. وقبل الدخول فى تفاصيل ما يجب فعله على وجه السرعة فى بداية الجمهورية الثانية والأيام الأولى لفترة ولاية الدكتور محمد مرسى، وجب علينا التوقف أمام عدة نقاط، نجد من الأهمية بمكان تحديدها لوضع النقاط فوق الحروف لتكتمل معانيها وتحدد مسارها فى الفترة المقبلة. .. أولى هذه النقاط التأكيد على أن الرئيس المنتخب وإن كان مرشح حزب «الحرية والعدالة» إلا أنه وبعد فوزه بالمنصب الرفيع لا ينبغى أن نحصره فى تيار دون غيره، فمعلوم لدى الجميع أن الإخوان والسلفيين ليسوا وحدهم من أيدوه فهناك الكثيرين من ألوان الطيف السياسى أو العقائدى، منحوه أصواتهم وأى قول غير ذلك فيه «تسطيح» للفكرة وتهميش للعقل وتقزيم للقيمة، وبالتالى ليس كل من فرح بفوز مرسى إخوانياً، فهناك وطنيون مصريون من الليبراليين والمسلمين غير المنتمين للتيارات أو الأحزاب الدينية بل وهناك أيضاً مسيحيون تعاملوا بفكر المواطنة بعيداً عن الأديان واختاروا مرسى، كل هؤلاء فرحوا بمصر قبل مرسى لأنها اجتازت خطوتها الأولى على طريق الديمقراطية التى كنا أشد احتياجاً إليها فى هذه الفترة الفارقة فى تاريخ بلدنا، ومازلنا فى حاجة ماسة لتفهم طبيعتها ومعرفة أصولها ومبادئها التى تفرض على كل طرف احترام رأى الطرف الآخر أياً ما كان. من هنا كانت الفرحة المصرية الطاغية من النخب والبسطاء على السواء بمصر الثورة وهى تجنى أولى الثمار. وها هى عملية الانتقال للسلطة مرت بسلام وأمان وفى مظاهر احتفالية رائعة من قبل القوات المسلحة التى أوفت بما وعدت - رغم المشككين - وسلمت السلطة مصحوبة بتعهدها دعم الرئيس الجديد حتى يحقق آمال الشعب وأهداف الثورة. وجاء الخطاب الأول للرئيس المنخب بعد أداءه اليمين أمام الجمعية العامة للمحكمة الدستورية العليا حسب نص الإعلان الدستورى المكمل، والذى ألقاه فى قاعة المؤتمرات الكبرى بجامعة القاهرة تقديراً لهذه المنارة التعليمية العريقة ولما لهذه القاعة من مكانة تاريخية، إذ كانت المكان المختار للعديد من خطابات الرئيس جمال عبدالناصر كما اختارها الرئيس الأمريكى باراك أوباما ليخاطب العالم الإسلامى من داخلها. وكان الخطاب مفعماً بالأمل والتفاؤل وأرسل من خلاله تحيات وتطمينات، أما التحيات فكانت للقوات المسلحة ومجلسها الأعلى وتكررت أكثر من ست مرات مصحوبة بإشارة من يديه إلى الصف الأول فى القاعة، حيث كان يجلس المشير محمد حسين طنطاوى والفريق سامى عنان وأعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة لتضج القاعة بالتصفيق والهتاف «الجيش والشعب إيد واحدة» وقدم تحيته أيضاً للشرطة والقضاء، وحيا أرواح الشهداء والمصابين، قبل أن يرسل رسائل التطمين للمعارضين والأقباط، ويؤكد لاءاته الأربع لا للتخوين لا للإقصاء لا لتصفية الحسابات لا للتمييز ويمكن القول إن الدكتور مرسى اكتسب أرضية جديدة أضيفت إلى أرضيته التى اكتسبها بعد زيارته للميدان وأدائه اليمين أمام مؤيديه، فضلاً عن إظهار قدراته البلاغية والاستعراضية التى لاقت إعجاب الكثيرين حتى ممن لم يمنحوه أصواتهم. ثم جاء خطابه الثانى فى حفل تسليم السلطة بالهايكستب والذى تألق فيه كما لم يتألق من قبل فى خطاب جاء عاطفياً حميمياً أرجع فيه الفضل لأهله بالثناء على ما قدمته القوات المسلحة خلال الفترة الانتقالية وتأكيده على معرفته بما لا تعرف الجماهير من دور وطنى قامت به القوات المسلحة ولم تعلن عنه للعامة. وزاد بتعهده تكريم قادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة بمعرفته الشخصية تقديراً لعطائهم ودورهم الوطنى الكبير فى الحفاظ على الوطن، كل ما تقدم كان أمراً رائعاً وإيجابياً وزادت الروعة والإيجابية من وجهة نظرى المتواضعة من خلال تركيز الرئيس الجديد على الحديث عن المستقبل وإمعان النظر فى الأمام، والتأكيد على أن عجلة الإنتاج لابد وأن تبدأ الدوران من اللحظة الأولى، فليس هناك وقت لنضيعه مثل الذى ضاع. وحسناً فعل الرئيس المنتخب عندما استقبل خلال الأيام الخمسة التى سبقت أداءه اليمين الدستورية كل أطياف المجتمع المصرى ليبدأ مهام عمله فعلياً فور تسلمه السلطة مباشرة لنصل إلى الفكرة التى تلت السكرة، فالتحديات كبيرة وصعبة فى ظل اقتصاد متراجع وأوضاع داخلية متردية بفعل الفوضى العارمة التي ضربت مناحى الحياة. لذا وجب على الرئيس وفريقه المعاون وحكومته الجديدة سرعة العمل لينهض البلد من كبوته ويجتاز كل العقبات ليحقق الأهداف المنشودة. فالكل يعلم أن البناء أصعب من الهدم، وبناء الدولة أقسى من إشعال ثورة، فالأخيرة لا تتطلب أكثر من هتافات مدوية وشعارات براقة وأحلام وردية، أما بناء الدولة فيعنى بناء مؤسسات وفرض قانون وتحمل مسئوليات حماية وطن ورعاية شعب، وهى أمور تحتاج لكثير من المال والجهد والوقت، إذ لا يملك الرئيس الجديد عصا موسى أو مصباح علاء الدين ليحقق كل الأحلام بضغطة زر. ولكى يتمكن الدكتور محمد مرسى من تنفيذ برنامجه وخصوصاً فى الأيام المائة الأولى التى حددها ليقضى خلالها على خمس مشكلات مزمنة، وفرضت نفسها فى الفترة الأخيرة وهى الأمن والمرور والطاقة والخبز والنظافة. فإن القوى السياسية وفى مقدمتها حزب «الحرية والعدالة» وجماعة «الإخوان المسلمين» مطالبة بالصبر والدعم والمؤازرة خلال المرحلة الأولى، فالرئيس فى أمس الحاجة للدعم والمؤازرة مع الصبر وعدم استعجال النتائج حتى يتمكن من قيادة دفة سفينة البلاد بدقة وتركيز باتجاه شاطئ الأمان. وهنا أجدنى مؤيداً لدعوة الدكتور كمال الجنزورى رئيس الوزراء التى وجهها لكل القوى السياسية مطالباً إياها بتأجيل طموحاتها فى السلطة من أجل إصلاح المسار، واجتياز عقبة البداية للمرحلة الجديدة، غير أن القوى السياسية التى بدا بعضها وكأنه يعد أنفاس الرئيس ويرصد تحركاته، لم تع بعد حرج اللحظة الراهنة، فى مسيرة الوطن وراحت تنصب نفسها رقيباً على الرئيس بإعلان البعض رفضهم لما تردد عن إمكانية إسناد رئاسة الحكومة الجديدة لفاروق العقدة، مطالبين الرئيس بالكشف عن تفاصيل لقاءاته فى تشكيل الحكومة وكأنهم أوصياء على قراراته، برغم علمهم بأن ما يتم، مشاورات سيعقبها القرار الذى يملكه وحده الرئيس المنتخب. وهناك حزبا الكرامة والجبهة الديمقراطية اللذان اتفقا على مطالب محددة رفعاها للرئيس وهناك جبهة المبدعين وأصحاب الطريق الثالث والقائمة تطول وسينضم إليها حتماً حزب الرئيس نفسه «الحرية والعدالة» وجماعته «الإخوان المسلمين» فكل جهة أو حزب وتحالف أو ائتلاف يطالب بنصيبه من كعكة الرئاسة. فالحزب والجماعة لن يقبلا بأن يبتعد مرسى عن مشروعهما، وسيبقى الرئيس أسير ارتباطه بهما عاطفياً على الأقل فضلاً عن قناعته بأنه لولاهما ما وصل إلى ما وصل إليه، فالجماعة والحزب هما اللذان اختاراه للترشح ورسما له الطريق وانفقا الملايين على حملته الانتخابية حتى تحقق له الفوز بعد جولتين بالمنصب الذى سعت إليه الجماعة خلال ثمانين عاماً وكانت قاب قوسين منه أو أدنى فى بداية الخمسينيات، وهى بكل تأكيد لن تقبل أن يحيد الرئيس عن منهجها أو ينشغل بغير تنفيذه. وهناك من انضم إليه مؤيداً فى جولة الإعادة من الفرقاء الثوريين والليبراليين والمثقفين كلهم يبحثون عن الغنيمة غير عابئين بالظرف ولا مقدرين للحظة. ومن هنا فإن الرئيس محمد مرسى مطالب بأن يحرر نفسه من الضغوط وينأى بنفسه عن سداد الفواتير والخضوع للمبتزين الذين يسعون لمشاركته السلطة أو منازعته الحكم ولا يصغى لأصحاب الشروط المسبقة، فالتركة ثقيلة والتحدى كبير والهم أكبر والمحاسبة ستكون له وحده دون شركاء من هنا، فإن الرئيس مرسى مطالب بالتأكيد مرات ومرات على ثوابت لا تقبل الجدال فى مقدمتها أنه رئيس لكل المصريين بعدما خلع رداءه الحزبى بعد إعلان فوزه بالمنصب، وأنه يقبل بمشاركة كل أطياف المجتمع المصرى فى العمل الوطنى فلا تمييز لديه لحزب أو جماعة أو فئة أو عقيدة، فلا وطن للجميع وليس للإخوان فيه أكثر مما لغيرهم. وعليه التأكيد على مبدأ الفصل بين السلطات حتى لا تجور سلطة على أخرى، على أن تعمل كلها فى منظومة وطنية واحدة تحت راية الوطن، وعلى الرئيس الجديد أن يحافظ على أمن مصر القومى ويقودها فى خطها المعتدل، وليعلم الرئيس أن الوقت من ذهب وهو أيضاً كالسيف ويمر بسرعة البرق فلا ينبغى أن نهدره فى مفاوضات الغرف المغلقة مع المنتفعين والباحثين عن دور ومكاسب، وإنما يجب أن نشمر عن السواعد ونباشر العمل الجاد الذى يحقق الأهداف المرجوة، والله من وراء القصد وهو المستعان.