عبد الرحيم رجب عزيزي القارئ من منا لم يسمع عن خطبة حجة الوداع؟! التي ألقاها نبينا محمد –صلوات الله عليه وسلامه- يوم عرفة على جبل عرفة، في العام العاشرة للهجرة، بعد أن فرض الله الحج على الناس وذلك في أواخر السنة التاسعة من الهجرة، فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريد الحج فخرج معه خلق كثير كلهم يريدون الحج مع رسول الله، فودَّع فيها نبيُّنا الكريم أمته، بعد أن أتم النبي -صلوات الله عليه وسلامه- إبلاغ الرسالة، ودخل الناس في دين الله أفواجًا،وبشَّره الله تعالى بكمال الدين فأنزل عليه: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا". فها هو ذا رسولنا الكريم يقف على جبل عرفات ويخطب في الناس خطبة الوداع مبلغًا عن ربِّ العزة، فخطب في الناس خطبة جمعت كلماتها القليلة ما لم تجمعه آلاف الكتب والقوانين، فأخرجت لنا دستورًا وميثاقًا للحياة، فخُلِّدت حروفها وكلماتها على مرِّ الزمان وإلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها. فقد دعا فيها خطاب النبي العالم أجمع إلى حقن الدماء، وحفظ الأعراض، ونشر السلام والرحمة، خطبة أعلن فيها نبيُّنا الكريم أن ديننا الحنيف يحفظ حقوق الإنسان بلا إفراطٍ ولا تفريط، فأكّد فيها -صلوات الله عليه وسلامه- على حفظ الضرورات الخمس: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال؛ فبذلك جمعت حقوق الإنسان؛ والتي لا تخرج عن تلك الضرورات. حقوق الإنسان في خطبة الوداع.. الحق الأول: حفظ الدين: فقد قال -صلوات الله وسلامه عليه-: "وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به؛ كتاب الله وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون ؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت، وأديت، ونصحت"، فيظهر من هذا النص الحرص على حفظ الدين، فالله تعالى خلقنا وهو أعلم بما ينفعنا ويضرنا، وقد أرشدنا رسول الله إلى كيفية حفظ الدين، فقال "باتباع كتاب الله وسنتي"، فأوجب علينا إتباع كتاب الله وسنته، ليتحقق أهم حق من حقوق الإنسان في حفظ دينه، وأخبرنا -تعالى- عن المقصد الحقيقي لخلقنا، فقال: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"، وقال -سبحانه-: "إن الدين عند الله الإسلام"، وقال –صلى الله عليه وسلم-: "من بدَّل دينه فاقتلوه". الحق الثاني: حفظ النفس: حثّنا الإسلام على حفظ النفس البشرية؛ فالحفاظ عليها أمانة ومسؤولية، والاعتداء عليها وإزهاقها جريمة، فحفظ الأنفس من أهداف الإسلام العليا ومقاصده الكبرى، وأمرنا رسولنا الكريم في خطبة الوداع بالحفاظ عليها، فقال: "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا" فشدّد النبي على حق الإنسان في حفظ دمه وماله وعرضه، وأكَّد على حُرمة المساس بأيِّ حقٍّ من هذه الحقوق، فقال -تعالى-: "ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابًا عظيمًا"، وشدّد النبي على ذلك، فقال: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة"، وقال أيضًا: "كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت مشركًا أو يقتل مؤمنًا متعمدًا". الحق الثالث: حفظ العقل: فقد كرَّم الله بني الإنسان بالعقل، فرزقهم التمييز به وجعل ذلك من مناط التكليف، ومن رحمته تعالى بنا أنه لم يكلف من زال عقله بعمل، ولم يوجب عليه حساب، ومن حرص الإسلام على الحفاظ على العقل جعل الاعتداء عليه حتى من صاحبه أمرًا محرمًا؛ وهذا هو السبب الحقيقي لتحريم الخمر، قال –عز وجل-: "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون * إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون"، فوصفها بأنها رجس من عمل الشيطان، وأنها أم لكل الخبائث، ووصفها النبي الكريم بأنها من أكبر الكبائر، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "الخمر أم الفواحش، وأكبر الكبائر". الحق الرابع: حفظ المال: كما جاء في خطبة الوداع قول النبي: "وربا الجاهلية موضوع، وأول ربًا أضع ربانا؛ ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله"، فهنا أعلن نبيُّنا الكريم تحريم واضح وصريح للربا، وبدأ بتنفيذه على أقرب الناس إليه، ليؤكِّد للناس عامة شفافية هذا الدين العظيم وعموميته ومصداقيته في تحقيق المساواة والعدل والرخاء، كما تكفَّل الإسلام في الأموال بالحفظ فكفل لكل ذي حقٍّ حقه، وحرّم الاعتداء على الأموال وأخذها بغير حق، وشرع حدّ السرقة لحفظها وصيانتها، قال –تعالى-: "ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل"، وقال –صلوات عليه وسلامه-: "كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه". الحق الخامس: حفظ الأعراض: كما أكَّد نبي الرحمة على حق الإنسان في حفظ عرضه، وجاء ذلك في بيان حق الزوجة على زوجها من نفقة وكسوة ، وحق الزوج على زوجته من طاعته وحفظه في غيبته، مما يحفظ لهما حياة عفيفة كريمة في ظل شرعنا الحنيف، فقال -صلوات الله عليه-: "فاتقوا الله في النساء! فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك، فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف"، فالإسلام لم يحابي أحدًا على حساب آخر، بل بيّن ووضح حقوق كل إنسانٍ وما عليه من واجباتٍ، فبيّن هنا حقوق المرأة في الإسلام وحقوق الرجل أيضًا، فحرص الإسلام حرصًا شديدًا على طهارة الأعراض ونقائها، ووضع الحدود لحمايتها وصيانتها، فحرَّم الزنا، وحرَّم تتبع العورات والنظر إليها، وجعل الحدِّ على فاعلها إما الجلد أو الرجم، وغلَّظ في عقوبة رمي المحصنات، وعدَّه من السبع المهلكات، قال -تعالى-: "إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة"، وقال -تعالى-: "والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوا كل واحد منهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا وأولئك هم الفاسقون"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات"، وقال أيضًا: "يا معشر من قد أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين، ولا تُعيِّرُوهم، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنّه من تتبَّع عورة أخيه المسلم تتبَّع الله عورته، ومن تتبَّع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله". وختامًا فمن تأمَّل نصَّ خطبة الوداع تأكَّد له بأنها دستور قائم بذاته يمكننا الاحتكام والرجوع إليه فيُدير لنا حياتنا بما يحقق لنا مصلحة الدنيا والآخرة، فلقد حوت من القواعد والمرجعيات التي تستند إليها الأمة أفرادًا وجماعات في جميع شئونها دُنيا وأُخرى، والله نسأل أن نكون قد بلغنا عن نبيِّنا الكريم كما قال: "فليبلغ الشاهد الغائب".