تبدو الأيام التي نحن فيها أيام فتن, كما لو كنا في آخر الزمان, حيث يشتبه فيها الحق بالباطل, ويغيب وجه الحقيقة خلف الأصوات المرتفعة, ودعوات الحشد هنا أو هناك , وينتشر التعصب لحزب أو لجماعة, ويقع القتال بين الأخوة, ويكثر حتي يصبح أمرا معتادا, لا يحرك شعورا بالذنب أو الخطيئة, بل يتمناه البعض ليزيد الأمور اشتعالا, بغير نظر إلي حرمة النفس البشرية, تلك النفس التي خلقها الله بيده, ونفخ فيها من روحه, وكرمها وفضلها علي كثير من خلقه, وأمر الملائكة بالسجود لآدم أبي البشر فسجدوا, وسخر لذريته السماوات والأرض, والشمس والقمر, والبر والبحر, والزروع والأنعام, وجعل أساس الدين, ومقصد الشريعة حفظ دين الانسان ونفسه وعقله وماله ونسله. يقول الدكتور محمود إبراهيم, الأستاذ بكلية اللغة العربية جامعة الأزهر لا أحد ينكر ما تموج به البلاد من فتن أيقظت معها روح العصبية, حيث يستباح الدم والمال والعرض, وهو أمر خطير أن يستباح دم إنسان تحت دعاوي التعصب والجهل, ولسنا في حاجة إلي التدليل علي حرمة الدم في الإسلام, فمنذ بزوغ فجر الاسلام حاملا معه نسمات الحرية شدد علي حرمة الدماء البشرية أيا كان معتقد أصحابها, فقال تعالي: أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا[ المائد:32] فهو تشريع صادر مع أول دم بشري أريق علي وجه البسيطة, كما أن الاسلام ساوي بين المسلم وغير المسلم في حد القتل وهو ما يفهم من قوله تعالي: كتب عليكم القصاص في القتلي الحر بالحر حيث لم يفرق بين القتلي من حيث الدين أو الجنس أو النوع, فكلهم متساوون في حرمة الدم علي التأييد, وفي وجوب القصاص, فإذا كان هذا أمرا عاما في الدم البشري أيا كان معتقد صاحبه, فلا شك أن الأمر في إطار الإخوة الإسلامية أشد حرمة, يقول النبي صلي الله عليه وسلم: كل المسلم علي المسلم حرام, دمه وماله وعرضه وفي حجة الوداع بين النبي صلي الله عليه وسلم حرمة دماء المسلمين وأخوتهم, وأنه لا فرق بين عربي وأعجمي, ولا بين أسود وأبيض إلا بالتقوي: كلكم لآدم وآدم من تراب. ولا نكاد نجد في كتاب الله تعالي عقوبة أشد من عقوبة قتل المؤمن بغير حق[ ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما]( النساء:93) يؤكد د. محمود علي أن المسئولية تقع علي أصحاب الرأي والفكر ممن يتصدرون المشهد الإعلامي, فعليهم أن يدركوا خطورة الكلمة وما يمكن أن تحدثه من تفرق وتعصب وتحزب تصير معه الأمة فرقا وشيعا يستحل بعضها دماء بعض, وأموال بعض, وأعراض بعض, فمثل هذا معول تمزيق للأمة يمكن لأعدائها من إهلاكها, وهو فوق ذلك علامة سخط الله وعذابه المدمر. ويضيف د. أحمد حمدي باحث دكتوراة بكلية الشريعة والقانون. أننا إذا عدنا إلي ديننا الحنيف لوجدنا فيه المخرج من هذه الظلمات, قال تعالي: ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق( الإسراء:33) وفي حجة الوداع وضع نبينا الكريم أسسا وثوابت راسخة ليقوم عليها المجتمع الإسلامي وعلي رأسها حرمة الدم فقال( صلي الله عليه وسلم): إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا( صحيح مسلم) ويعظم النبي( صلي الله عليه وسلم) هذا الأمر ويبين مدي خطوته بقوله: لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم, وقوله: لن يزال المؤمن في فسحة من دينه( أي مطمئن النفس في سعة من رحمة الله) ما لم يصب دما حراما( أي يقتل نفسا بغير حق)( سنن النسائي الكبري), وقال ابن عمر: إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله. * ويضيف د. أحمد أننا نري هذه الأيام دعوات وشعارات بعيدة عن الإسلام, ومنها شعار دم بدم, فالقصاص شرع الله وهو للحاكم, وليس لكل أحد أن يقيم القصاص بنفسه, فهذا يدخلنا في دوامة من الثأر لا تنتهي, ويجب أن نستحضر حرمة الدم, وخطورة القتل, فالقرآن قرن بين القتل والكفر فقال: والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق( الفرقان:68), وتوعد القاتل بالخلود في جهنم قال تعالي: ومن يقتل مؤمنا فجزاؤه جهنم خالدا فيها( النساء:93), وحذر الرسول الكريم من حضور مشهد القتل فقال: لا يقفن أحدكم موقفا يقتل فيه رجل ظلما,فإن اللعنة تنزل علي من حضره حين لم يدفعوا عنه( المعجم الكبير للطبراني). * أما الشيخ زكريا محمد زاهد باحث دكتوراه في علوم الحديث, ومحاضر بمعاهد إعداد الدعاة التابعة للجمعية الشرعية فيقول: إن الناظر في الشريعة الإسلامية يجد أنها تشتمل علي مقاصد ثلاثة: الضروريات, والحاجيات, والتحسينيات والضروريات: هي الأمور التي لا يمكن للحياة أن تقوم بدونها, وهذه الضروريات تشتمل علي الكليات الخمس التي أمرت الشريعة الإسلامية بحفظها وهي علي الترتيب: حفظ الدين, وحفظ النفس, وحفظ العقل, وحفظ النسل, وحفظ المال فجاء في الدرجة الأولي حفظ الدين, لأنه الشيء الذي يعرف الإنسان به حقيقة وجوده في هذا الكون وبه يعرف عظمه خالقه وبدون هذه الضرورة يكون الإنسان مثله كمثل الدابة التي تقاد إلي حتفها وهي لا تدري, وتسعي في هدم بنيانها وهي لا تشعر, ثم جاء في المرتبة الثانية حفظ النفس, لأن هذا الشيء الذي علي أساسه قامت الدنيا, فكل ما في الكون خلقه الله شمسخرا لخدمة هذا الإنسان, بينما يقول الشيخ وائل عبدالمطلب, واعظ بالأوقاف, حرص الإسلام الحنيف أشد الحرص علي المحافظة علي حياة الناس وأمنهم وأموالهم وأعراضهم وجعل ذلك مقصدا من مقاصد شريعته الغراء, وكان ذلك من آخر ما أوصي به النبي صلي الله عليه وسلم وذلك في الحديث المتفق عليه في خطبة النحر في حجة الوداع حين قال إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا, في شهركم هذا في بلدكم هذا, إلي يوم تلقون ربكم. واعتبر الإسلام قتل النفس بغير الحق هو بمثابة اعتداء علي البشرية جميعا قال الله تعالي: من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا, هذا فضلا عما أعده الله من العذاب الشديد لمن يتورط في سفك الدماء, وقد جعل زوال الدنيا بأسرها أهون عند الله من قتل نفس مؤمنة, بل إن المؤمن أعظم حرمة عند الله من الكعبة المشرفة كما روي عن رسول الله صلي الله عليه وسلم. والإسلام لم يكتف بتحريم القتل وإراقة الدماء بل أمر بإغلاق كل الطرق المؤدية إلي هذه الجريمة النكراء